قبل بضع سنوات لا تتجاوز عدد أصابع اليدين ضم مركز الملك فهد الثقافي فعالية تمثلت في مؤتمر دولي كبير لجمعية طبية. كانت ساحات المركز وقاعاته تغص بالحضور من مختلف أرجاء المملكة ومن خارجها كذلك، الذين جاءوا لحضور المحاضرات التخصصية التي يلقيها نخبة من العلماء من مختلف دول العالم، الذين تتميز محاضراتهم بفتح نافذة على مستقبل العلم القادم خلال السنوات المقبلة ومايمكن أن يتوقعه الطبيب من تقنيات ومواد ومعارف تساعده على تطوير قدراته وتحسين مستواه وبالتالي تحسين الخدمة التي يقدمها لمرضاه، في منتصف النهار تقريباً وبينما كان الحضور يتوزعون بين قاعات المؤتمر وبين ساحة المعرض المصاحب ساد جو مفاجئ من الارتباك وبدا شيء من التوتر يظهر على وجوه المنظمين والمعارضين وسرعان ما تجمع عدد من المسؤولين أمام بوابة المركز، وخلال الدقائق اللاحقة اتضحت الصورة بعض الشيء، فقد قامت دورية لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بزيارة المركز واستنكرت الاختلاط الحاصل في فعاليات المؤتمر واستدعت الشرطة التي حضرت برفقة دورية الهيئة، وبعد نقاشات طويلة مع المنظمين دخل أفراد الهيئة برفقتهم وبينوا الملاحظات التي استنكروها، وكان أهمها وجود الرجال والنساء في المعرض في ذات الوقت وهو ما رأوه اختلاطاً غير مقبول وسرعان ماقام المنظمون وسط حرج بالغ من الضيوف مختلفي الجنسيات بطلب الخروج من الجميع خارج المعرض وإعادة تنظيم ساعات المعرض بجعل أوقات محددة للرجال وأوقات محددة للنساء، وسط دهشة بالغة من الحاضرين الأجانب الذين علق أحدهم بقوله لماذا لايعتبروننا زبائن في أحد الأسواق؟، هل كانوا سيخرجوننا لو كنا في السوق؟، تبسم أحد المنظمين في حرج وقال لو كنت دون زوجتك فسيخرجونك يادكتور. تداعت إلى ذهني تلك الذكريات وأنا أطالع الأخبار عن قيام مركز الملك فهد الثقافي ذاته باحتضان وتنظيم فعالية «نغمات ثقافية» التي تضمنت حفلاً غنائياً ومعرضاً تشكيلياً وعزفاً لفرقة جاز قدمت بعضاً من المقطوعات الشهيرة، مع حضور نسائي. لا أخفي عليك عزيزي القارئ أنني أصبت بدهشة كبيرة وأنا أقرأ الخبر وأعدت قراءته أكثر من مرة من أكثر من مصدر حتى تأكدت من صحة الخبر، خصوصاً أنا أحمل ذكريات مختلفة تماماً لطبيعة الفعاليات التي تقام في ذلك المركز والقيود التي تفرض عليها. بالطبع برز في ذهني التساؤل الأساسي الكبير: ما الذي جرى؟ وكيف انتقلنا من ضفة إلى أخرى بهذه السرعة؟ هل تغيرت الأنظمة والقوانين؟ أليست القيود التي فرضت في المناسبة الأولى كانت من جهة حكومية تتبع النظام؟ أليست الجهة التي نظمت الفعالية الأخيرة جهة حكومية كذلك وتطبق النظام؟ هل ثمة خلل ما في التعاطي مع الأنظمة؟ هل هناك طرف ما على خطأ؟ إن كان ثمة طرف ما على خطأ فأعتقد أنه حان الوقت لتوضيح ذلك بصراحة وشفافية الآن وأن تكون هناك أنظمة واضحة ومكتوبة تبين ماهو مسموح وماهو ممنوع تحديدا لنا كأفراد كي لا نجد أنفسنا عرضة لاتهام بمخالفة النظام ذات يوم. على خلاف كثيرين من الذين ابتهجوا بتنظيم حفلات مثل هذه وعدوها دليلاً على عهد جديد لمناخ ثقافي استجاب أخيراً لمطالب المثقفين بالانفتاح والتنوع في الأنشطة الثقافية، على خلاف هؤلاء لم أبتهج بذلك ولَم أعده دليلاً على أي نوع من الانفتاح المفترض، فأنا مازلت أشعر بالحيرة تجاه (بعض الجهات المسؤولة) التي تضيق بمجموعة كتب في مقهى وترسل فرقة لمصادرتها كما فعلت في حادثة مقهى الراوي الشهيرة، التي لا يتسع صدرها لرأي أدبي بحت كتبه ناقد معروف فتقوم بحجب مقالاته، وأشعر بالدهشة والتساؤل كذلك، كيف يتسامح نظامها مع فرقة أجنبية وعازفين ومطربين ويسهل إجراءات دخولهم وإقامة فعالية مثل تلك ولا يتسامح مع بضعة شباب ينوون التجمع في مقهى وإقامة ندوة صغيرة إلا بعد إجراءات يشيب لها الولدان ومكاتبات وموافقات تستغرق شهوراً. صحيح أن الافتتاح والتنوع وممارسة الفنون ضرورة حضارية لاجدال حولها، لكن المناخ الثقافي الحر هو البيئة الحقيقية والضامن لنشاطات ثقافية تكون ذات ثمرة وتأثير في المجتمع وكل ما نتج في غياب هذا المناخ فهو طارئ وعابر ولايعول عليه!