هل يمكننا أن نتنبأ بالمستقبل الثقافي، كما نتنبأ بالأحوال الجوية؟ وإذا حاولنا استشراف الآتي، فما المجالات الثقافية التي يمكن أن تزدهر، أو تندثر؟ وهل نملك غير توقُّعيَن، لا غير، هما الأصولية الثقافية، والعولمة الثقافية؟وإذا كنا من حزب الوسط فإننا نتوقع مزيجا ثقافيا منهما! برز في الآونة الأخيرة كُتَّابٌ ومفكرون يتنبأون بقرب اكتساح (الثقافة الأصولية) لمجتمعاتنا العربية، اعتمادا على مجموعة من الاستقراءات السريعة، المتمثلة في الإرهاب الذي تمارسه جماعاتٌ عديدة، تنسب نفسها إلى العقائد الدينية، هؤلاء الكتاب اعتقدوا بأن الجماهير الخائفة، التي تشايع الإرهابيين الأصوليين بلباسها، ونمط حياتها، المفروض عليها، اختارت بمحض إرادتها، هذه الثقافة الأصولية. إن كل نواتج الخوف لا تُسلك ضمن الثقافة، فهي حالة طارئة، تنتهي بانتهاء حالة الخوف والرعب. كما أن ما يُطلق عليه، الثقافة الأصولية، غايتها القصوى، الانتقام والتدمير، لهدف سيادة عنصرٍ واحدٍ، ورأي واحد. تنبأ بعضُ المفكرين بزوال الثقافة العربية، أو بقرب زوالها، وعزوا نبوءتهم إلى غيرتهم على ثقافتهم، واستطلاعهم لما آلت إليه الثقافة في عصرنا هذا، وإلى اضمحلال اللغة العربية، التي هي أداة الثقافة، وأرجعوا نبوءتهم إلى ضعف المستوى التعليمي، وانصراف أهل الثقافة عنها، هؤلاء أيضا لا يختلفون عن الفريق الأول، في أنهم يدفعون النشء للسفر المادي والمعنوي للبلاد الأجنبية، طلبا للثقافة الأجنبية! هؤلاء المنفرون من ثقافتنا العربية تناسوا بأن الثقافات الأصيلة كالألماس، لا تندثر، وإن اختفت عن الأنظار، فهي تحتاج إلى منقبين أوفياء، قادرين على إزالة شوائبها، وإعادة صياغتها من جديد في قوالب عصرية، قادرة على التحدي، ومزجها بخليط ملائم للعصرفأزمتنا الثقافية هي أزمة مثقِّفين، بكسر القاف. إن عملاء العولمة من العرب يستشعرون كيف أزالت العولمة من التراث الأوروبي كلَّ الحشو، وألبست ثقافتها لباس العصر، وعجنت من دقيق قدماء مفكريها طعاما سائغا لأبنائها، وأبناء أبنائها في شكل موسوعات كمبيوترية جذابة، ففتحوا شهية أبنائهم نحو تراثهم، أما نحن المثقفين فاكتفينا بأن نقف على أطلال تراثنا نندب حالنا. من جهةٍ أخرى، شرع كثير من مثقفينا في قراءة كف الثقافة، وكتابة الأحجبة والوصفات الطبية، هروبا من عجزهم في مجال الإبداع الثقافي. أمام ثقافتنا العربية طريقان، إما أن تخضع صاغرة للنظام العولمي، وتصبح ثقافة مُهجَّنة، تؤشِّر فقط إلى أزياء منتجيها، ومواقعهم الجغرافية، خالية مما يبعث على الفكر والإبداع، وهذا يُشير إلى بداية ظهور المثقف القشري العربي، ويكون الشبه بينه وبين المثقف الحقيقي كالشبه بين القرد والإنسان. وإما أن يلجأ المثقفُ العربي إلى الثقافة التقليدية، وهؤلاء سيستفيدون من الخلخلة النفسية، الناتجة عن العولمة، التي تؤثر بشكل مباشر في النشء العربي. أعتقد بأن نصف قرن آخر سيمر دون أن نتمكن من صياغة مستقبل ثقافي عربي، فالمستقبل الثقافي يُقاس بمقدار استخلاص العسل من التراث، وهذا لا يُنجز إلا بجهودٍ من مؤسسات ثقافية كبرى، تتولى غربلة التراث، وتحليله وفق عصره، ثم استخلاص عسله وتعبئته في جرعات جذّابة ومركزة، تلائم عصر العولمة. يعود سببُ تشاؤمي هذا إلى متابعتي للبرامج التعليمية المدرسية والأكاديمية، فهي قاصرة، ومنفِّرة، إن أنظمة التعليم هي البذورُ الرئيسة لإنتاج شجرة الثقافة العربية، وإن إثمارها يعتمد على الجهد المبذول في رعايتها، واختيار الفسائل المناسبة الصالحة لطبيعة الأرض والمناخ.