الهَمُّ، أعاذني الله وإياك منه، عدوٌّ للإنسان أكبر، وضيفُه الأثقل، وضيقُ صدره، وإهدارُ عمره، وفوات لحظات فرحه، وتغييبُ إبداعه، وتشتيتُ ذهنه، وما إن لازمه فهو قرينه الأسوأ، وجليسه الأردأ. إن أصاب الإنسانَ همٌّ وملك عليه حياته، بات كل شيء في عينيه بلا معنى ولا قيمة، باهتاً منزوع الجمال والرونق والحياة، لا شيء يجذب فكره ومشاعره، فيحول الهم بين حواسه وفكره وبين كل معاني الحياة وجمالياتها، فلا يرى الجميل جميلاً ولا يطرب لحديثٍ ممتع ولا يلقي بالاً لما يسعده، فبعدما كان يرى في إشراق الشمس أملاً في نفسه وهمةً في جسده، بات لا يرى إلا الظلام، وما أدراك ما الظلام! واستسلم لصاحبه «الهمّ» ورفع له رايته وملّكهُ زمام أمره يقوده حيث يشاء. ويختلف الهمّ باختلاف سببه أو مصدره، الذي بدوره يختلف من شخص لآخر، ولكن الإحساس به وبثقله في النفس البشرية متقارب، ولا يفكر الإنسان تحت وطأة هذه الحال في المنطق، بأن الهم لن ينفعه وأن الحياة لن تنتظره ولن تقف على بابهِ تستجلب رضاه، ولا تخطر الحكمة حينها على باله، وأنه في الدنيا لا بد من فرحٍ وترح، ووقت يسرٍ ووقت عُسر، وليس له يدٌ في ذلك، ولكن الذي في يده، أن يختار إما أن يستسلم للهم والأحزان تأكله يوماً بعد يوم، أو أن يكمل طريقه تاركاً وراءه الماضي، وما مضى مات وانقضى. وهنا يستحضرني ما قاله ابن حِبان البستي في تحفته «روضة العقلاء ونزهة الفضلاء»: [ولا يجبُ للعاقل أن يغتم، لأن الغمّ لا ينفع وكثرته تُرزي بالعقل، ولا أن يحزن، لأن الحزن لا يرد المرزأة، ودوامه ينقص العقل]. صحيح، ولكن، من منا لا يحزن أو يحمل هماً في قلبه في وقتٍ من الأوقات لسببٍ من الأسباب العارضة كثيراً في هذه الدنيا، ومن ذا الذي يمكنه إن أصابه مكروهٌ أياً كان، ألا يحزن ويغتمّ حينها؟ ولكن هنا يرمي إلى الحزن والغم المستديمَين، اللذين يملكان على الإنسان عقله وقلبه وحياته فيشُلان إبداعه وتقدمه، بل وحتى حياته الطبيعية. لا يمكنك أن ترى ضوء الشمس ما دمت مسدلاً تلك الستائر المعتمة على عينيك، وما دمت مغمضاً كلتيهما عن رؤية النور، والعبور من المضيق إلى المخرج، فمن الذي وقفت الحياة إجلالاً له ولحزنه؟ ومن الذي أفلته القدر دون همٍّ أو ألمٍ يتسبب في سقوطه حيناً من الزمن؟ ولكن، تذكّر أن السقوط لن يُعدّ سقوطاً ما دام سينهض بك إلى قمة، وكما قيل «ما لا يقتلك، يقويّك»، وأستكمل معكم كلماتي في مقالي الأسبوع القادم بإذن الله.