طبِّب فؤادك حيث شئت من النوى، فحيلة المحتار شفقٌ ينتظر، أو ليلٌ ينهمر، وما الأحلام بالتمني، وإنما تؤخذ الدنيا بإرادة الصبور المجد، وكن ذا عزم تأتيك المفردات بالبشرِ، تعانق أمانيك، فهذه النجوم خزفٌ ينكسر، وأقمارها العشرة تحتضر. نعم، هنيهة ترى السماءَ مظلمةً في يومٍ كان البدر مطلاً كصديقٍ يؤنس قلوب المحبين والمتحابين على صوت الناي الحزين، وعلى "قمريةٍ" كادت أن تهبط من عليائها لتخبرك عن صبٍّ كئيبٍ وعن قصةٍ لا تدركها العقول، سوى كلمات اشتقَّت من لونٍ قرمزي، ليس لها صوتُ جرسٍ، وإنما فيها أحلام البائسين. تلك الأحلام: هي أحلام المودِّعين والراحلين عن هذه الدنيا التي حثت في نفوس النائمين، وعلى شرفتها كأس الكادحين؛ يملأون أحزانهم بقطرة عرقٍ، وتارة أخرى بقطرة دمٍ. هو وجه النحس وربما وجه الكدر. والأقدار وحدها تنبِّئك عن صهيل الشوق الذي ينتظر. إن السعادة ليست حباً، أو هياماً، أو أعطيةً من ذهبٍ وفضةٍ، بل إن جاءكَ شيءٌ من هذه الدنيا فعليك أن تبحث عن إنسانٍ غلبته الأيام على عقبٍ لتعطيه ما زاد عن حاجتك، لتُفرح به قلبه، وترسم السعادة على وجنتيه، فتراكَ عيناه بكل ابتسامةٍ ولطفٍ. نعم، هنيهة تجد الراحة والسعادة الكاملتين دون كدر، أو وجه كآبة يعتليك كلما وجَّه الصبحُ وجهته. هذه ليست أحجياتٍ أو ألغازاً، ولا جرعاتٍ دينيةً، أو متصوفةً بكأس الأرواح الطيبة، إنما معدن الإنسان لأخيه الإنسان الذي ينتظر منه الشفقة دون أن يسأله حاجته. ليست الأخلاق بمعزلٍ عن هذا، فهي في صلب حكايتنا في هذا المقال، الذي نُشير إليه أعلى درجات الأخلاق الإنسانية التي استوحتها الأديان، وجعلتها أساس التدين وجوهره، فالأخلاق، أعزَّكَ الله، أولها صبرٌ، وآخرها راحةُ بالٍ، والإنسان تأخذه الهفوات دوماً، فهو لا يَسْلَم من غريزته الحيوانية، وهي الأنانية، والذاتُ المتعاليةُ لحبِّ الشيء ذاتَهُ ليصنعه لنفسه، وإن طاوع نفسه المغرورة فلن يشعر براحة وطمأنينة، بل سيعيش في ضيقٍ على الرغم من هالة الأموال في حساباته البنكية، وهو بهذا يجعل من عمرهِ قصيراً، ولو عاش ألف سنة زمنية في دنياه لن يجد إلا حياةً وَسِعتها الكبرياء والبغض، ولن يشعر إلا بتبلد الإحساس الظاهري، وسيكون في داخله محطماً ومنكسراً لا يستطيع حمل إرادته، لأنه جعل من أمواله غايةً، وليست وسيلةً، يعيش بها على قدر حاجته. لو أن كل إنسانٍ، كائناً مَنْ كان، حاكماً أو غنياً أو ذو منصبٍ رفيع، أدرك حاجته الأساسية، وما فاض منها منحه إلى غيره لوجدت هدوءَ العالم وخلوَّه من الحروب واستغلال الإنسان أخاه الإنسان، وإن حكمت على ذاتك بالأنانية، وقلت إنني وحدي هنا لا شريك لي بما أغتنمه من ثروات، فاعلم أن البشر أممٌ متصلةٌ ببعضها، فإذا حصلت كارثة لمجتمعٍ ما فستتأثر بقية المجتمعات تدريجياً، تبدأ أولاً بالنفس، ثم تتأزم الظروف المادية والمعيشية، وهناك الأسعار التي ترتفع لا ترتفع إلا بسبب شرور الإنسان، وتصرفه السيئ، وتذكر أن عالمنا ضيِّقٌ جداً، نعيش في جزره الصغيرة وسط خضم من المحيطات الهائلة.