في حالتنا ونحن ندون الفكرة لابد أن ننتبه إلى أن الفكرة ليست مادة تعليمية في الإمكان تدريسها، وليست كذلك معلومة يُكتفى ببثها في المجتمع، وليست قيمة تربوية، ينقلها الأستاذ إلى تلميذه عن طريق القدوة، وليست مسلكاً نفسانياً يتسلل من روح الشيخ إلى المريد الممدد كالميت بين يد الغاسل، بل هي «عليقة ذهنية» قد تكون مستوردة مع بعض التعديل، ولكنها ليست «منبتَّة» عن طبيعة المجتمع وحياة الناس فيه، بل هي منهم وهم منها، وإن استنكروها في لحظاتها الأولى، وفي بواكير إصدارها، وأولى دفقات تدوينها، كيف لا والفكرة التي لا تقابل بالتعجب والاستصعاب ليست فكرة، بل خاطرة تذروها الرياح، إن النفوس والعقول لا تتحفز إلا أمام الأفكار التي تستفزها وتتحداها وتراودها عن نفسها، فهم يعلمون أنها ليست درساً ولا معلومة ولا قيمة تربوية ولا مسلكاً روحانياً، وليست خاطرة عابرة، بل قوة نفَّاذة تتغلغل داخل المكون النفسي والعقلي للمجتمع من منافذ التفكير والبحث، لا أقول عن حلول لمشكلات المجتمع، بل عن محاكمات عقلية جديدة وممارسات تحليلية صالحة، لا تحل المشكلات، ولكنها تستثمر الإخفاقات، وتحولها إلى نجاحات، وبهذا نستطيع قياس الفكرة ومدى نجاحها عن طريق إنزالها على واقع المجتمع الذي تتشابك فيه المشكلات مع الطموحات مع القيم، ووجود فجوات بين ذلك وتعارض، ومواطن احتكاك شديدة الوقع على السيرورة المجتمعية، فتوفر الأفكار النيرة هو الإسمنت الذي يغطي هذه الفجوات، وهو الضمان الذي يعطي المستقبل أرضية صلبة ومنصة لا تنطلق منها الفعاليات المجتمعية إلا وهي معلومة المسار، ومتوقعة المصير، فلا تتكرر الاحتكاكات ولا تتزايد الفجوات بين آمال الناس وقيمهم، عندها فقط نقول: ها قد زرعنا فكرة رائعة أثبتت وجودها على أرض الواقع الذي لا يزيده كَرُّ الأيام إلا تعقداً واشتباكاً.