لقد كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن مدارسنا إلى الحد الذي لا نكاد نطالع فيه صحيفة يومية واحدة أو نجالس بعضاً من الناس في مجالسهم أو في مناسباتهم الخاصة أو العامة إلا ونقرأ أو نسمع قول بعضهم إن مدارسنا أو بعضاً منها لم تؤد دورها التربوي على أكمل وجه بل وان هناك من تجاوز هذا القول إلى اتهام بعض القيادات التربوية بدءاً من المدارس وحتى أعلى شخصية في سلم الهرم التربوي والتعليمي في بلادنا بالقصور وعدم الاهتمام التربوي بما يؤمن سبل الوقاية لأبنائنا الطلاب من الوقوع في الانحرافات السلوكية وما إلى ذلك من الانتقادات الأخرى التي توجه لمنهجنا الدراسي من قبل بعض الكتاب وعجزه عن تحقيق الأهداف التربوية من وجهات نظر مختلفة قد تكون مخالفة للواقع وقد تكون كذلك ولكن في جانب معين أو في نطاق محدود لا يحتمل التعميم أو تنبع من نظرة تربوية خاطئة من أساسها.. ولأهمية هذا الموضوع الحيوي المتجدد وانصافاً للحق والحقيقة نود أن نوضح هنا ومن باب المصلحة العامة ما يلي: أولاً: ينبغي أن نعرف سوياً أن المدرسة ليست هي الجهة الوحيدة لتربية النشء من الطلاب أو الطالبات، وإنما هي تمثل واحدة من مجموعة وسائط تربوية أهمها وأساسها البيت ممثلاً في الأسرة، فالمسجد، فالأندية بمختلف مسمياتها، ومن ثم وسائل الإعلام المختلفة، أما دور المدرسة الحقيقي فقد أجمله التربويون في ثلاث نقاط هي: 1- نقل التراث من جيل إلى جيل، أي من الأجيال الماضية إلى الأجيال الحاضرة وذلك وفق منهج دراسي محكم ومنظم يتبناه كل مجتمع بناءً على فلسفته أو سياسته التربوية أو التعليمية التي ينشدها لأبنائه الطلاب أو الطالبات من أجل تحقيق غايات نافعة لهم ولمجتمعهم ووطنهم على حد سواء. 2- إكمال ما قد بدأ به البيت من أسس وقيم ومبادئ تربوية حيث يولد الطفل وينمو ويترعرع في كنف والديه ويتأثر بهما وبكل ما يحيط بهما داخل هذه الأسرة من مثل هذه القيم المبادئ العامة والتي إما أن تكون فاضلة فتكون سبباً في استقامة سلوكه أو تكون على العكس من ذلك فينشأ هذا الطفل بناء عليها كما بين ذلك المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله: «ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء...» متفق عليه، وهو الحديث الذي يؤكد على مدى أهمية التربية وانطلاقتها الأساسية من البيت وليس من المدرسة كما يظن البعض من الناس حيث تترك بعض الأسر أبناءها ومنذ نعومة أظفارهم دونما اهتمام أو رعاية أو متابعة أو توجيه فيشبون حينئذ على ما تعودوا عليه في صغرهم من حرد وغضب ولجاجة وعجلة أو طيش وحدة وجشع على حد تعبير ابن القيم الجوزية - رحمه الله - أو كما قال الشاعر: وينشأ ناشئ الفتيان منا على ما كان عوده أبوه 3- تصحيح ما قد ينمو إلى أذهان النشء أو يعلق في ذاكرتهم من مفاهيم أو حقائق أو معلومات علمية خاطئة نتيجة لاحتكاكهم بالآخرين من الناس سواء داخل أسرهم أو خارجها من خلال الوسائط التربوية الأخرى. ولعل فيما سبق يبين لنا أن المدرسة ليست هي المسئولة الأولى عن تربية الأبناء، وإنما الأسرة هي المسؤولة الأولى عن التربية تليها المدرسة فبقية الأوساط التربوية الأخرى كما أوضحناه آنفاً، وهي الحقيقة التي أجمع عليها المختصون التربويون بالإضافة لمدرسة التحليل النفسي والتي أثبتت ومن خلال دراستها التربوية إلى أن السنوات الخمس التي يقضيها الطفل في كنف أسرته داخل البيت تعد من أهم السنوات الحاسمة في حياته حيث يتعلم من خلالها الكلام والنطق وبعض العلوم الدينية بالإضافة إلى العادات والتقاليد والقيم الاجتماعية ناهيك عن تعرفه على الخطأ من الصواب والحسن من القبيح، وهكذا. ولذلك لا غرو في أن تصبح الأسرة هي المعقل الأول لنشأة الطفل والمعمل الأول لبلورة شخصيته وتشكيلها حيث يتسم هذا الطفل في هذه المرحلة بالمرونة والقابلية للتأثر والتغيير والذي برعايته والاهتمام به وتقويمه بناء على أسس تربوية صحيحة يستقيم سلوكه سواء داخل الأسرة نفسها أو في المدرسة أو في الشارع أو في أي مكان كان والعكس صحيح حين لا يجد هذا الطفل مثل هذه الأسرة الصالحة فينعكس ذلك على سلوكياته والتي غالباً ما تكون بمنأى عن السلوك القويم أو بمعنى آخر الوقوع في شراك الانحرافات السلوكية ما الله به عليم ولعلنا لا نبالغ في هذا السياق اذا ما قلنا بأن أكثر الشباب المنحرفين سلوكياً هم ممن عاشوا في أسر تفتقر لمثل هذه التربية الصالحة أو أنهم عاشوا في أسر بمعزل عن اهتمام الوالدين وبما تقتضيه مسؤولية تربيتهم من الرعاية والتوجيه والعناية بهم من كافة الجوانب اللازمة لهم فكرياً وجسمياً وصحياً ونفسياً ووجدانياً والواقع يشهد بذلك إلا من رحم الله. ثانياً: أما فيما يتعلق بمنهجنا الدراسي واتهامه بالقصور أو الخلل التربوي من قبل بعض الكتاب أو بعض من عامة الناس فهذا يحتاج إلى تفنيد وإيضاح وذلك من منطلق كون البعض من هؤلاء المعنيين بهذه القضية لا يفرقون مع احترامي لهم بين المقرر والمنهج في ظل المفهوم الحديث والذي يشمل بالإضافة للمقررات الدراسية كل ما يقدم للطلاب داخل المدرسة من أساليب تربوية وطرق تقويمية وبرامج وأنشطة مدرسية ومصادر للتعلم. فإذا كان هذا الاتهام موجّها للمقررات الدراسية فقط فنحسب أن هذا مجانب للصواب وذلك للأسباب التالية: (1) انبثاق مفردات مقرراتنا الدراسية من ثوابتنا الإسلامية وقيمنا الاجتماعية الأصلية وفي مقدمة ذلك بطبيعة الحال القرآن الكريم وعلومه بالاضافة لمواد التوحيد والفقه وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم والتي تمثل في واقع الأمر ثلثي هذه المقررات بشكل أساسي بالإضافة البرامج المناشط المدرسية كجزء لا يتجزأ من هذا المنهج الدراسي. (2) احتواء هذه المقررات على موضوعات ومعلومات ذات أصالة علمية واضحة وعلى مفاهيم أخلاقية سامية وفي نفس الوقت شاملة لكثير من أهداف المجتمع وغاياته التربوية والتعليمية الحاضرة والمستقبلية بالإضافة لما ينمي التفكير لدى الطلاب وخاصة في وضعها الحالي إذا ما أردنا الإنصاف. (3) إسناد مهمة تأليف هذه المقررات إلى متخصصين أكفاء ممن يشهد لهم بالأمانة العلمية والخبرة التربوية وسعة الاطلاع وبعد النظر وبإشراف مباشر من الوزارة ووفق توجيهات قيادتنا الحكيمة حفظها الله الأمر الذي يجعلها في مأمن من مثل هذا القصور أو الخلل بإذن الله تعالى، وهي بذلك بعكس مثيلاتها في بعض البلدان الأخرى التي قرأنا عنها في هذا الخصوص حيث تسند مهمة تأليفها إلى بعض القطاعات الخاصة والتي ربما تكون عرضة للنقص أو الخلل. أما إذا كان هذا الاتهام موجّها للأساليب والطرق التدريسية المتبعة في مدارسنا والتي تمارس من قبل بعض معلمينا بطرق تقليدية عقيمة وغير محققة في بعض الأحيان للأهداف التربوية المنشودة للأبناء الطلاب حيث تقوم على أساس الحفظ والتلقين والاسترجاع وتحت طائلة العقاب الجسدي أحياناً، فنحسب أن هذا فيه شيء من الحقيقة في الوقت الذي تبذل فيه الوزارة كل ما في وسعها من اجل تجاوز مثل هذا القصور التربوي وذلك من خلال الأدوار الإشرافية التي يقوم بها المشرفون التربويون كل بحسب تخصصه وموقعه بالإضافة للدورات التربوية المكثفة التي تعقد للمعلمين في هذا الخصوص على مدار العام الدراسي وبشكل متواصل كما نلمسه من خلال الميدان. ناهيك عن إجراءات القبول التي وضعتها الوزارة مؤخراً لمن يتقدم للعمل بهذه الرسالة التربوية ممثلة في إجراء اختبار القياس والمقابلة الشخصية لكل متقدم رغبة منها في تأمين معلمين أكفاء يكون لهم عائد كبير على الأبناء تربوياً وتعليمياً ومسلكاً ومن كل النواحي اللازمة للطلاب، وينسحب ذلك على جميع القيادات التربوية، ولعل في مثل هذه الإجراءات ما يحقق المبتغى لتعليمنا من النجاح والتطور والازدهار في ظل هذا الاهتمام المستمر بالتربية والتعليم من لدن حكومتنا الرشيدة أدامها الله. فالمشكلة إذاً ليست في المقررات الدراسية كما يعتقده البعض من الناس والذين ينظرون إليها على أنها منهج متكامل في حد ذاتها أن ينظرون إليها بنظرة الكم من المعلومات الهائلة أو الصفحات الكثيرة، وإنما في الأساليب والطرق المتبعة التي ذكرناها سابقاً والتي يفتقر لأسسها الحديثة بعض المعلمين حيث تتضمن عددا من الخطوات الإجرائية للمعلم داخل الصف بهدف إيصال المعلومات إلى أذهان طلبته على نحو من البساطة والوضوح والفهم وبما يساعد على تنمية مهاراتهم وتفكيرهم لبلوغ المراد وحل المشكلات وهي الطريقة الرائدة التي يعتبرها المهتمون بالتربية الجانب الأهم للعملية التعليمية إذا ما تجاوزنا النظرة الضيقة لعملية التعلم وانحصاره في بوتقة المدرسة إلى حيث الحصول على العلوم والمعارف من جهات أخرى غير مدرسية وخاصة في هذا العصر... عصر التقنية والثورة المعلوماتية العامة وتعدد مصادر التعلم وبطرق وأساليب جذابة ومشوقة خلافاً لما كان عليه في الماضي حيث كانت المقررات الدراسية هي المصدر الوحيد لتعليم الطلاب آنذاك. بقي أن نشير في نهاية هذا المطاف إلى أن منهجنا الدراسي الحالي وفي ظل مفهومه الحديث فيه من الخير الكثير ما يستحق فلعلنا نحسبها من الأمور البديهية التي تحدث في أي مجتمع ينشد التطور والتقدم وهذا ما نلمسه بوضوح في بلادنا حيث يخضع منهجنا الدراسي للتحسين والتطوير المستمر بغية الوصول لمثل هذه الغاية التطلعية والتي لو تحقق فيها الرضا لأصبح ذلك اغتيالا للطموح هذا من جهة، أما من الجهة الثانية والتي نرى أهميتها وضرورتها فتمثل في العمل الجاد الذي من شأنه ترجمة ما يتعلمه الطلاب إلى واقع سلوكي يكون أكثر إيجاباً وفاعلية وذلك تأسياً بما كان يفعله سلفنا الصالح من أبنائهم وتلاميذهم في الكتاتيب ويحرصون عليه مما كان له شأن كبير في صلاح أبناء الأمة آنذاك مع فارق الزمن بطبيعة الحال، حيث كانوا يعلمون أبناءهم أو تلاميذهم آيات من كتاب الله أو بعضاً من الأحاديث النبوية فلا يبرحون المكان ما لم يطالبونهم أي هؤلاء الأبناء أو التلاميذ بتطبيق ما تعلموه على أرض الواقع ومن ذلك بر الوالدين على سبيل المثال انطلاقاً من قول الله تعالى: (وبالوالدين إحساناً...) وقوله تعالى: {ولا تقل لهما أف ولا تنهرهما...} فيتخلق هؤلاء الأبناء بذلك مع والديهم من هذا المنظور التربوي والتوجيه الإلهي العظيم وغير ذلك من الدروس النافعة كالمحافظة على العبادات واحترام الجار والكبير وإزالة الأذى عن الطرقات تحقيقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إماطة الأذى عن الطريق صدقة...) وليس العكس كما يفعله البعض من شبابنا اليوم من أنهم يسيئون إلى والديهم أو إلى جيرانهم أو إلى أحد من الناس بأي شكل من الأشكال أو إلى الشوارع العامة من خلال رميهم للنفايات على الأرض دونما اهتمام بأهمية النظافة العامة أو العبث بممتلكات الوطن وما شابه ذلك من التصرفات الخاطئة التي تنم عن عدم استفادتهم مما يتعلمونه في مدارسهم وللأسف الشديد سوى ما يهيئ لهم فرصة اجتياز الاختبارات والتي لمجرد انتهائهم منها أصبحوا كالهشيم تذروه الرياح... على أية حال هذا ما ينبغي النظر إليه في هذا الإطار التربوي مؤكدين في ذات الوقت على ضرورة تعاون البيت مع المدرسة من أجل أن تحقق أهدافها التربوية والتعليمية التي يتطلع إليها المجتمع وإلا سيظل الأبناء الطلاب على النحو الذي ذكرناه سابقاً.. ولعل في هذا القدر من الإيضاح كفاية لهذا الموضوع المهم. ولكن قبل أن نبرح هذا المقام الكريم لهذه الصفحة الغراء أجدني مضطراً لطرح السؤال التالي: من المسؤول عن تواجد بعض الأبناء الطلاب أو الشباب بعامة في الشوارع إلى ما بعد منتصف الليل هل هي المدرسة أم البيت؟ ومن جهة أخرى من هو المسؤول أيضاً عن نوم بعض الأبناء الطلاب في المدارس ومنذ اللحظات الأولى لدخولهم الحصص نتيجة لسهرهم الطويل لمتابعة الفضائيات، هل هي المدرسة أم البيت؟ قال صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته....) سائلين المولى عزَّ وجل الله في الختام أن يلهمنا الصواب في القول والعمل، وأن يوفقنا جميعاً لكل أسباب الخير العميم لخدمة عقيدتنا ومجتمعنا ووطننا العزيز في ظل قيادتنا الرشيدة حرسها الله؛ والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل.