كثيرة تلك الدراسات والبحوث التي تناولت مفهوم الأمن الفكري، وتعرضت له باتجاهات ومداخل مختلفة؛ لكنني لا أتفق مع كثير منها؛ إذ تضع مفهوماً للأمن الفكري باعتباره سياجاً مانعاً يحجب الأفكار من الوصول للأفراد، وهذا ربما نظرياً يمكن تحقيقه؛ لكنه عملياً يصعب تنفيذه. ففي عصرنا الحالي لا تستطيع أن تمنع المعلومة والفكرة من الوصول للناس، فأضحت المعلومة متاحة في كل مكان، والفكرة ليس بينها وبين العقول حاجز، ولقد اجتهدت الكثير من الدول في منع وصول الأفكار لشعوبها، لكنها اجتهادات أحبطها الفشل، وأعيتها الحيل، وبات تحقيق الأمن الفكري معضلة تواجه الأفراد والمجتمعات. وعلى الرغم من نبل الغايات التي يسعى الكثيرون لتحقيقها من خلال مستويات مختلفة ومقاربات متنوعة لضمان الأمن الفكري؛ إلا أن هذه المستويات لها إيجابياتها وسلبياتها؛ فالمستوى الأول الذي أنيط به تحقيق الأمن الفكري عند البعض هو المنع والحجب، منع الأفكار والدعوات المختلفة من الوصول للأفراد، واختراق منظومتهم الفكرية، وبالتالي وجد أصحاب هذا المستوى أن المنع والحجب هو الضمانة الفعلية لتحقيق مفهوم الأمن الفكري على أرض الواقع. لكن هذا المستوى من التناول ربما تجاوزه الزمن، فلم تعد سياسات المنع والحجب مجدية مع هذا التدفق المعلوماتي الهائل، وقنوات التقنية التي تحاصر البشر من كل مكان، والبدائل المختلفة للحصول على المعلومة المحجوبة، ولم يعد مقبولاً احتكار الحقيقة وفرض الرأي الواحد، فالأمن الفكري لا يتحقق مع الاتجاه الواحد، وعدم قبول الآخر المختلف، فالأمن الفكري في جوهره لا يتعايش مع الإملاء الفكري وإقصاء الآخر، ولعل هذا الاتجاه وجد طريقه نحو التهاوي مع ظهور الإعلام الجديد الذي تميز بعدة سمات أهمها؛ حرية الرأي وسعة الانتشار وسرعة التداول، وتنوع المصدر، فأصبح المتلقي هو صانع الخبر وهو مصدر المعلومة، ومن هنا أتساءل كيف يمكن تطبيق الحجب والمنع في ظل هذه التغيرات والمعطيات الجديدة؟ أما المستوى الثاني من التناول فهو يتجه لتحصين الأفكار ومنحها التسلح الذاتي الذي تستطيع أن تواجه به الأفكار الفاسدة والدعوات المضللة، وهو ما يعرف بالتحصين المعرفي، لكن هذا المستوى أيضا ترد عليه ملاحظات؛ إذ إن صراع الأفكار- الأفكار تتغلب فيه الفكرة الأقوى حُجية والمصحوبة بمجموعة من العوامل المساعدة المؤثرة في ذات الوقت، ومنها التأثير العاطفي للفكرة، فضلا عن إقحام ربما البعد الديني والإثني والعرقي والقبلي وخلافه، مما يعتبر من العوامل المساعدة لتغلب أفكار وأطروحات على أخرى. ومن هنا أجد أن هذا الاتجاه أيضاً لم يعد هو الاتجاه الأفضل والأقوى تأثيراً في تحقيق الأمن الفكري، فهناك منظومات فكرية متباينة لدى الأفراد قد لا تقوى على مواجهة الأفكار الواردة المتلحفة بعباءات تصادف هوى في نفس البعض وتجد قبولاً لدى البعض الآخر، ومن ثم كان من الضروري إيجاد مستوى آخر من التناول يملك آلية لفلترة الأفكار، ومعرفه أهدافها وغايتها، والتخلص من الفاسد منها والموجَّه. لذا أرى أن إعمال العقل بتحصينه من خلال تنمية مهاراته في التفكير والنقد والإبداع هو ربما السبيل الأمثل لتحقيق الأمن الفكري على مستوى الفرد؛ فالعقل حين يستقبل المعلومات يكون لديه القدرة على تنقيتها وفلترتها مما يشوبها من أوجه قصور ونقص وتداخل وأهداف مشبوهة، وربما تناقض حقائق ومنظومات فكرية وقناعات موثوق بها، فضلا عن تقييمها؛ ومن ثم اتخاذ قرار قد يسمح لها بالولوج إلى العقل من عدمه. فهذا العقل لديه من الحجة والبرهان ما يفلتر به المعلومات الواردة إليه، ولا يأخذها على علتها فقط، فيبحث ليفهم ويقتنع ليدرك، ويتوصل في تفكيره للإبداع والإبتكار واستحداث الأفكار الجديدة والإبداعية. وهذا الاتجاه في إعمال العقل في التفكير والنقد والتحليل طالبنا به ديننا الحنيف، فيقول الله عز وجل "إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الأَلْبَابِ . الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ". (آل عمران، الآية 190-191)، وقد عرَّف البعض التفكير من هذا المنطلق بأنه "حركة العقل بين المعلوم والمجهول". فإعمال العقل في التفكير الناقد وما يرتبط بذلك من مهارات فرعية يشكَّل السياج الواقي للعقل من تسرب الأفكار والمعتقدات غير المقبولة إليه، والتي تتنافى مع البناء الفكري الذي تضمنه هذا العقل، والتي من شأنها أن تتلف ما حولها من أفكار. والتفكير الناقد يعني قدرة الفرد على إبداء الرأي المؤيد أو المعارض في المواقف المختلفة، لذا فهو تفكير تأملي يهدف إلى إصدار حكم أو إبداء رأي وذلك بإخضاع المعلومات والبيانات الواردة لاختبارات عقلية ومنطقية وذلك لإقامة الأدلة أو الشواهد والتعرف على القرائن؛ ومن ثم قبولها أو لفظها. فالعقل هنا يمثِّل الحارس أو مكافح الفيروسات الذي يتحقق من هوية كل الداخلين إلى بنائه الفكري، حتى يظل البناء الفكري للإنسان آمناً محمياً. وعلى المستوى المجتمعي يجب اتباع منظومة من المبادئ والأسس لتتبناها كافة المؤسسات الاجتماعية والدينية كالشفافية، والتوعية، والانتماء، والوحدة، والمواطنة، والتفاعل، والمشاركة، وتكوين الجبهات الفكرية للتصدي للحملات المغرضة. مع أهمية تقليص الفجوة بين ما يحدث على أرض الواقع؛ وما يشاع عنه من معلومات مغلوطة، ويكون السبيل الوحيد حينئذ هو طرح المعلومات الصحيحة دائماً. ويكون دور الإعلام والخطاب هنا هو الحد من التأجيج والتصنيف والاستعداء لأنها تتسبب في موجات كبيرة من الصراعات المنهكة للطاقة الوطنية، مع نشر ثقافة العمل وثقافة الرقي في الحوار والنقاش، والتعامل بحيادية وموضوعية مع الآخر المختلف، وكذلك تثقيف الأجيال القادمة بمسؤولية السلوك ليس في العالم الواقعي فقط بل في العالم الافتراضي أيضا، مع تفعيل لدور المؤسسات المجتمعية سواء الدينية أو السياسية أو التربوية.. وغيرها، أو مؤسسات المجتمع المدني لتحقيق التواصل بين الأجيال والتفاعل بين الفرد والمجتمع من أجل المحافظة على وحدة البناء الفكري وثبات الهوية وامتداد الموروث الثقافي، فضلا عن ضرورة خلق الآليات لهذه المؤسسات لأداء أدوراها الحقيقية، والاستفادة من الفرص التي تمنحها العولمة والانفتاح المعلوماتي دون أن يمتد تأثيرها إلى المساس بالهوية والمألوف الثقافي الوطني. غير أن هناك أسباباً مجتمعية ربما ساهمت في هشاشة البناءات الفكرية أمام الأفكار الدخيلة، وعدم قدرتها على المواجهة بالشكل المطلوب، خاصة إذا وجدت هذه الأفكار ما تستند إليه على أرض الواقع من أسانيد اجتماعية وإدارية واقتصادية تتمثل في قصور برامج التنمية الاجتماعية والاقتصادية عن تلبية حاجات الأفراد والمجتمعات، وارتفاع معدلات البطالة والفقر وغياب العدالة الاجتماعية في كثير من مجتمعاتنا الإسلامية، والتساهل في حماية الحقوق وتطبيق العدالة الاجتماعية وتحقيق مبدأ تكافؤ الفرص في هذه المجتمعات، والتهاون في توفير حياة كريمة للمواطنين، وعدم الاهتمام بمشكلاتهم ومطالبهم، في ظل تراجع أداء المؤسسات الحكومية في كثير من مجتمعاتنا الإسلامية، وفشلها في التخطيط للتنمية المستدامة، وقصورها في مواجهة المشكلات والأزمات التي تنزل بمجتمعاتها. ومن هنا فإن الأمن الفكري يبدأ بالتفكير الناقد وإعمال العقل ويمتد للتوسع في فرص التنمية وإتاحة فرص الإندماج المجتمعي بهدف القضاء على ذرائع الاستقطاب، مع إعلاء قيمة العمل والانتاج والمشاركة المجتمعية، وتعزيز اجتماع الكلمة ووحدة الصف حول القيادة، والحفاظ على حالة الاجماع الوطني داخل مجتمعاتنا حتى تصبح كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا. بهذا يتحقق الأمن الفكري الذي ننشده لديارنا ومجتمعاتنا وأجيالنا القادمة.