نحن انعكاس لمن جاؤوا قبلنا، وسنكون امتداداً لمن سيأتون بعدنا، ومسألة عزل التاريخ عمَّن صنعوا لنا التاريخ ضحك على الذقون، بحجة أننا ضد مسألة التقديس، غافلين عن السماح أو فتح الباب على مصراعيه لموضوع السخرية بالتاريخ من باب أن «لا شيء مقدس»، وهذه الكلمة كلمة حق أريد بها باطل، وفي المقابل إن رفض النقد الموضوعي لتجاوزات السابقين لا يعني رفضهم بالمطلق، وأمام هذين المتناقضين تكمن مشكلة أكثر الناس. التاريخ ليس حالة مجردة يأتي بشكل هلامي، بل لا يمكن أن يكون هناك تاريخ ما لم يكن هناك بشر صنعوا لنا الأحداث، وكانوا جزءاً منها رفضاً وقبولاً، وتأثروا أو أثّروا بمجريات تلك الأحداث سلباً وإيجاباً، ولا يمكن بحال من الأحوال عزل العنصر البشري عن الزمان المحيط به، أو اقتلاعه من المكان الذي كان يسير عليه أو يقيم فيه، فالزمن امتداد للمكان والمكان اتجاه للزمن، وهذه الحالة حالة فلسفية ليس هذا المكان مجالاً للحديث عنها. مسألة التعامل مع التاريخ والنظر لرجاله من باب «تلك أمة لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت» هو المنهج الصحيح، حيث لا يكون فيه تقديس محض ولا سخرية مطلقة، بل ندرس التاريخ ونستفيد منه، دون الشتم لمن سبقونا أو الاستهزاء بهم في أضيق الأحوال، وليس كذلك التقديس الموصل للعبودية للرجال الذين سبقونا في صناعة أحداث التاريخ. هذا الكلام لا يعني الانسلاخ من الزمن وترك قراءة التاريخ، بل الطبيعي قراءة التاريخ وتمعّنه، فالتاريخ قد يعيد نفسه، وإن لم يُعِد نفسه فمن المحتمل أن الأغبياء يرتكبون نفس الأخطاء، فالحاضر انعكاس للماضي، والمستقبل لِمَا يحصل على أرض الواقع، وقد قال أحد المفكرين الفرنسيين -لا يحضرني اسمه الآن- «لكي تفكر سياسياً بشكل سليم يجب أن تقرأ تاريخياً بشكل سليم»، لكن الصفريين من الناس لا يمكنهم الاستفادة مما يقرأون في حال قراءتهم، لأنهم يريدون كل شيء وفق ما يتخيّل في الذاكرة الفردية التي صنعوها بأنفسهم لأنفسهم، لهذا تجدهم يقدسون كل شيء جاء من السلف، حتى إنهم ربطوا هذه الكلمة بكلمة أخرى، فجاءت متلازمة معها «السلف الصالح»، لذا لا يقبلون كل نقد ويرفضون كل تفكير يتعارض مع ما رسموه في المخيلة لهذا «السلف الصالح»، وفي المقابل نجد أقواماً رفضوا هذا النمط في التفكير، فانقلبوا للضفة الأخرى من النهر، فصاروا لا يقدسون التاريخ أو يتعاملون معه بموضوعية فحسب، بل أصبحوا يسخرون منه وممن صنعوه بحجة أن (لا شيء مقدس)، لهذا صاروا يصغّرون حتى العظماء الكبار بحجة هذا الغرض، وكلا الطرفين من أصحاب التفكير «الصفري» الذين يريدون كل شيء إما مائة في المائة أو صفر في المائة. الحب المفرط جعل بعضهم يقفز على الحقائق ولا يقبل المناقشة، والسخرية الخارجة عن المعقول جعلت أصحابها لا يؤمنون بالموضوعية أو يعترفون بالمنهجية العلمية للتفكير، وهذه الحالة تنطلق من أن المقدسين لا يقرأون إلا لمن يريدون تغذية هذا الشعور المتنامي في النفوس المعجبة دون انضباط بكل شيء قادم من التاريخ، وفي المقابل إن المنحرفين للسخرية لا يريدون أن يعرفوا إلا الأخطاء والعيوب، ولا يحرصون على قراءة أي شيء إلا ما يكتبه المخالفون بحجة البحث عن الصورة المخبّأة الموجودة في عيون الآخرين، لهذا يتمادون في مجال التشكيك في الأسماء والمواقف، وربما يتطاولون على الرموز بحجة النقد الموضوعي والتفكير العلمي المجرّد -ومن المعروف بداهة أن لكل أمة رموزها ورجالها ومواقفها التاريخية المفصلية- لكن تحت مظلمة الموضوعية تبدأ سلسلة لامتناهية من الشك والتهميش والتقليل من شأن حركة التاريخ. التقديس والسخرية في التاريخ عاملان منفران للنفس السليمة من الاهتمام بالتاريخ، فالمقدس يرفض مناقشة الأخطاء ويعمل على تعظيم كل شيء جاء به الزمن، وهناك من أطلقوا على الزمن مقولة «الزمن الجميل»، وفي هذا الكلام استسلام لهيمنة التاريخ على النفوس، أما أصحاب مبدأ السخرية فقد تمادوا بالهروب من ماضيهم وماضي أسلافهم، فأصبحوا كالقشّة التي تتقاذفها الأهواء.