ما طرحه أخي د. الشايع في مقاله، المؤرخ بغرة ذي الحجة، كان حديثه فيه عاما، لا ينصب على صلب القضايا التي تم طرحها حول الأحاديث، والأسئلة التي أُثيرت حولها، وهذا ما يجعل ردي عليه شبيها بمقاله؛ فمن العدل المعرفي في الردود أن تجري على سنن واحد، وتقتفي أسلوبا متقاربا. ما يعيشه المسلمون اليوم هو ضريبة خنوعهم لعالم الأشخاص في كافة طوائفهم، وهو خنوع سببه الرئيس عندي أن مراجعة عالم الأشخاص لم تعد مراجعة، وإنما أضحت هدما لهم وتدميرا عزا إلي د. الشايع أنني أتهم الصحابة في روايتهم، ونسي أن الخلل في الرواية فيه احتمال آخر؛ وهو أن يكون صادرا من الرواة بعد الصحابي؛ خاصة إذا استحضرنا أن الرواية في بدئها كانت مشافهة؛ لكن أخي خالدا آثر أن يضع الصحابة وحدهم في الواجهة؛ لأنه يحصل بهذا على مبتغاه في تبشيع عمل الكاتب، وإساءة الظن به عند الناس؛ بخلاف ما لو قال: إن الكاتب يتهم النقلة عن الصحابة؛ فتلك الحالة وإن كانت صعبة أخف حدة، وأقل شدة! ذاك أولا. وأما ثانيا فمن الغريب في خطاب الشيخ أن يفهم موقفي من بعض الأحاديث من خلال مصطلح التهمة والاتهام، فالشك في بعض الأحاديث عنده تهمة لنقلته من الصحابة ومن بعدهم! ومعضلة التهمة أنها تجعل الراوي محل شك دائم، وريبة مستمرة، وهذا ما يريد أن يعزوه إلي حتى يشك القراء في أمري، ويُشيحوا بوجوههم عن قولي؛ فالمسلمون من أي طائفة كانت لا يقبلون باتهام أسلافهم جملة، من الصحابة كانوا أم من التابعين؛ فالتهمة حجر عثرة ثقيل في وجه كل صاحب رأي جديد، وقول عن المألوف بعيد، وهكذا فألفاظ أخي لم يرد منها أن يُعالج إشكالات الأحاديث، بل قصد إلى مقابلة عبد ضعيف مثلي بالصحابة وتلاميذهم، وهي مقابلة مؤطرة بأن هذا العبد الضعيف، المتأخر في زمانه، يتهم أولئك، ويُدخل الريبة عند المسلمين منهم! ومثل هذا النهج قد علم الناس من قديم الزمان أن هدفه التحريض على الكاتب لا تعقبه، والرد عليه؛ فكيف وصف قوله بالتعقيبات؟! التهمة والاتهام لا يقبل بهما الناس في أي شيء؛ فمن ضرورات البحث العلمي، والسعي في طلب الحق، أن يتجرد الإنسان من تهمة منتج الرأي، وناقل الخبر، ويبدي رأيه في ذلكم الفهم، وتلك المنقولة، ويذر المستنبط، ويترك الناقل؛ فليس هدف الإنسان أن يُوزع تهمه على الآخرين؛ إلا إن كان الكاتب سادرا في غيه، يكتب لنفسه، ولا يهتم بقرائه، وأحسب مثل هذا الإنسان خاسرا بسوء أدبه، ولن ينفعه علمه وعقله عند كثيرين من القراء. ومن اتهامي باتهام الصحابة إلى اتهامي برفض السنة جملة، ومثل هذا الخطاب، الذي يحتذيه أخي د. خالد، لا دخل له في نقاش قضيتنا الأساسية، وهي تلك الأحاديث التي دارت حولها الشكوك، بل يريد أن يجعل الكاتب في موقف من يشك في عموم السنة، وهي تهمة لا تُساعدها مواقف الكاتب نفسه، وهدف هذه التهمة الكلية في الموقف من السنة نزع القراء من تصديق الكاتب، وبعث الارتياب في نفوسهم من خطابه؛ فهي لا تختلف عن التهمة السالفة حين جعل مراد الكاتب أن يتهم الصحابة جملة في نقلهم؛ والناس كما تعلمون لا تقبل مطلقا من يشك في الصحابة جملة، أو يرتاب من السنة عامة، وهكذا يكون خطاب أخي خالد مبناه من أوله إلى آخره على فكرة التهمة، وإذا دار القارئ بين اتهام الصحابة واتهام كاتب في هذا العصر لا شك سيجعل التهمة كلها، والاتهام كله، في حق هذا الكاتب. وإذا دار القارئ كما يريد له أخي خالد بين الشك في عموم السنة، والشك في الكاتب ومقاصده السيئة، فسيكون الكاتب هو الحقيق بكل تلك المعاني، وهكذا يكون أخي خالد ينسج بخيوط الوصاية على القراء بيت العنكبوت في زمن لم يعد مثل هذا البيت يسع الإنسان، أو يقبل به؛ لكن الشيخ الشايع أحبّ أن يُخاطب القراء بخطاب، لم يعد له أنصار في زمن الانفتاح الكبير، وهذا ما يُفسر امتعاض عدد غير يسير من المعلقين على مقاله؛ لأن القراء لم يعودوا أولئك القراء المستسلمين، الذين يخدعهم الكاتب باتهاماته وإساءة ظنه بغيره، وإني هنا لأرفع يدي تحية لمثل هؤلاء القراء؛ فهم رصيد الدين، ومستقبل البلد، وعلى عقولهم ولا أقول: أكتافهم يُبنى مستقبله، وتُشاد آماله. وقادت التهمةُ المجملةُ لي أخي خالدا إلى النتيجة التالية حين قال:" وحيث إن المنهج الذي اختطه الكاتب لنفسه، وفتح عليها من خلاله أسئلة جدلية طرفها عنده، ومنتهاها إلى رد نصوص الوحي كله"! وهذه النتيجة التي خلص إليها جعلته ينشغل بالدفاع عن السنة جملة، ويقضي وقته بالمحاماة عن السند كفكرة، وكل هذا لم يكن من قولي، وإنما هو شيء فهمه، وأراد أن يُلزمني القول به، ثم يرد عليّ وفق فهمه، وليس وفق قولي ورأيي، ومثل هذه الردود تُشبه إلى حد كبير من ينتقدك حين تخطئ فقيها في فهمه، أوتعيب عليه استنباطه، فيجعل مرتكز نقده لك على أنك تُشكك في فقهاء الإسلام وقدرتهم، وتتهم الأصول النظرية في الاستنباط بالخلل والضعف، فيُظهر للقراء أنك أوحد العالمين، وخبير المتقدمين والمتأخرين، وبين الأمرين كما بين السماء والأرض؛ لكن هذه الطريقة هي أسهل الطرق وأسرعها حين يريد الراد أن يعزلك عن الناس، ويحرمك من حق القول في بعض الجزئيات؛ يُهاجمك بالمجمل، وأنت مشغول بالجزئي، وهي عادة منهجية في هذا العصر؛ لكنها في ظني لا تمت إلى البحث بصلة قرابة! التهمة والاتهام المجملان لفظان سيئا السمعة، وبهما يتوصل كل متحدث إلى إغلاق الطريق أمام الآخرين أن يقرأوا كلام من يخالفه، ويفكر بغير طريقته! واليوم يؤمن الناس جميعا أن في مقدورك أن تقول رأيك دون أن تتهم غيرك، وتضعه في دائرة التهمة؛ فالتهمة عندهم تعني القصد إلى الخطأ، والإصرار عليه؛ وما من ريب أن أحدا لا يملك حق الاطلاع على السرائر، ولا الكشف عن خفايا الضمائر، وهكذا تكون تهمة الكاتب للآخرين طعن فيه أولا، وصد عن قوله ثانيا! فيصبح خطابه أول الخاسرين، وأعوذ بالله تعالى في هذه العشر أن أكون من أشكال هؤلاء الناس، وإن وجدت القراء لي شيئا من ذلك؛ فأنا متراجع عنه، ومتأسف من القول به؛ فالولاء للمبادئ، وليس لأفراد الآراء. لقد سلك الشيخ الشايع مسلك الإجمال في الرد، والسبب في ذلك أنه جعل خلافه معي حول الأصول، وليس حول أفراد من الأحاديث! فجاء رده في ثلاث نقاط؛ أولها أن السنة وحي، والثانية وهي مبنية على الأولى أن الإيمان بما جاء فيها واجب، والثالثة أن الإسناد ضرورة في نقل الدين! وكل هذه النقاط لم تكن محل خلافي معه؛ فأنا معه في حجية السنة الثابتة، ومعه في كون الإيمان بما جاء فيها من مقتضيات الإيمان أن يؤمن به المسلم، ومعه في أهمية الإسناد؛ لكن خلافي معه في أفراد من السنة، ونزاعي معه في بعض الأسانيد!! فهل يُرد النزاعُ الواقع في الأفراد والجزئيات بالعموم والإجمال!؟ هل ترد على من يخطئ بعض الاختيارات في مذهبك الفقهي بأنه تشكيك في المذهب كله، وضرب لرجالاته أجمعين، وطعن في نقلته؟! وهل يكون من العدل في الرد أن تضع المسألة في سياق الكلي، وهي جزئية، وتضع صاحبه بين أمرين أن يقبل الجميع أو يرفضهما، بل هل يملك أحد هذا الحق أصلا؟! وليسمح لي القراء أن أضرب نموذجا من الأحاديث، فيه ما يخدش الأدب، ويجرح المشاعر أن يُنسب مثله إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام لكني مضطر لهذا حتى أُوضح بالمثال الفرق بين ما أدعو إليه من نقد جزئي للروايات، وبين ما رماني به الشيخ خالد في مقاله من تهم مجملة عامة. روى ابن ماجة بسنده عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما من أحد يُدخله الله الجنة إلا زوّجه الله عز وجل اثنتين وسبعين زوجة، اثنتين من الحور العين، وسبعين من ميراثه من أهل النار، ما منهن واحدة إلا لها قُبُلٌ شهي، وله ذكرٌ لا ينثني"!! فالمسلم الذي يتوقف كل شيء عنده على السند، سيكون أول شيء عنده حسن الظن بالنقلة، فيقبل الحديث، ويبحث لنسبة "لها قبل شهي، وله ذكر لا ينثني" إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام عن تسويغ من هنا وهناك، فأساس الأسس عنده النقلة؛ هكذا تعلم، ولن يقبل بحال أن يستصحب معرفته القليلة عن الله تعالى وعن رسوله عليه الصلاة والسلام سيدع كل شيء، ويستمسك بهذا الإسناد؛ ولو كان لا يعلم عن رجاله شيئا، يشك في معرفته اليقينية عن لغة القرآن الكريم في ترقيه حين الحديث عن مثل هذه القضايا، وينسى وصف رسوله عليه الصلاة والسلام بأنه أشد حياء من العذراء في خدرها، فيقنع بأن يُنسب مثل هذا القول إليه، وتجده فرحا يحدث الناس به، فهو في سنن الإمام ابن ماجة رحمه الله ، ويرويه من الصحابة أبو أمامة، وما كان لهذه الحال أن تسود في تأريخ الإسلام، فتنتشر الروايات الموضوعة والضعيفة؛ لولا تقديس الرجال وعالم الأفراد؛ حتى أضحى النظر إلى الروايات من خلال غير هذا المسلك جريمة يُعاقب عليه نظام التفكير، ويُساء في أصحابه الرأي. ظل هذا الحديث يتداوله الناس في طبعات سنن ابن ماجة حتى جاء الألباني رحمه الله فأخرج ضعيفه، وجعله منه (ص 355)، وقد ظل قبله لقرون من الزمان مع نقد بعض العلماء له في كتبهم يقبع في السنن، يشفع له هذا الإسناد أن يرتاب منه أحد، أو يشك فيه مسلم؛ فمن في مقدوره من عامة المسلمين أن يقف أمام أمثال هؤلاء الرواة! وهذا ما يجعلني أخلص إلى أن كثيرا من تقديس عالم الأشخاص في ثقافة المسلمين ساعد عليه مقلدة المحدثين في العصور السالفة، الذين تسمكوا بأشكال اتخذها الرعيل الأول من الأئمة، وظنوا أنهم أرادوا أن يقفوا بهذا العلم عندها، فاجتمع على المسلم من أي طائفة كانت جماعات كلها ترتكز على عالم الأشخاص وتقديسه، ولم يعد فرق بين فقيه ومفسر ومحدث؛ إذ تقديس الرجال يطبع وجوه الثقافة كلها، ويشل حركة المسلم؛ فهو لا يستطيع أن يشك في تفسير منقول، ولا يرتاب من رأي فقهي عجيب، فمعرفته بدينه لا تُساعده على شيء؛ وهي عند النظر كلا معرفة، فالدين مجموعة من الجزئيات المبعثرة، لا منطق ينظمها، ولاحكمة في ذهن المسلم تحدوها؛ فهو في كل شيء مسلوب الإرادة بحاجة للرجال حتى يعطوه خلاصة الرأي، ويُسلموا له حبال النجاة، ولا أظن جوا تسري فيه الخرافات، وتعشعش فيه الأخطاء كهذا، وإذا عُدمت المراجعات، وحوربت الأسئلة النقدية؛ فمن أين ينهج الإنسان إلى طريق العقل والتفكر، وهو أشد الطرق عليه، وأعسرها على أفراده؛ كما بيّنت لنا حياة الناس اليوم، وكشف لنا عنه تأريخهم؟. والمثير للدهشة حقاً أن تمارس طوائف المسلمين جميعا، محدثين وفقهاء ومفسرين، تقديس عالم الأشخاص، ثم يتلاوم أهلوها على انتشار الأفهام الخاطئة، وذيوع الخرافة، وفشو الأساطير في الناس!! ما يعيشه المسلمون اليوم هو ضريبة خنوعهم لعالم الأشخاص في كافة طوائفهم، وهو خنوع سببه الرئيس عندي أن مراجعة عالم الأشخاص لم تعد مراجعة، وإنما أضحت هدما لهم وتدميرا؛ مما دفع بالناس أمثال الشيخ الشايع أن يجعلوا التعرض لهذا العالم تهمة عامة، بها يشان المتحدث، ويسجل عليه بها إثم كبير! لكنهم ما ينفكون يلومون الناس من غير طوائفهم أن ضللتهم الخرافة، وفرّخت في أذهانهم الأساطير! فلله تعالى الأمر من قبل ومن بعد، وضحوا تقبل الله ضحاياكم؛ فإني عازم على التضحية بعالم الأشخاص في كل أضحى أن أصبح المعيار الذي منه بداياتنا ومنطلقنا، وإليه نهايتنا وغاية مطافنا! ورحم الله الإمام عليا حين قال: اعرف الحق تعرف أهله؛ فقلب النظرية التي نؤمن بها هذه الأيام، وتقوم عليها حياة المسلمين منذ قرون.