يجذبك المشهد من بعيد.. بحيرة جميلة هادئة على ضفافها تقع بيوت متراصة يحسبها الزائر للوهلة الأولى أروع الأماكن في قطاع غزة الذي يئن تحت ويلات الفقر والحصار والبطالة وبطش الاحتلال، لكن ما تراه ليس بحيرة كما تظن ولا بيوت الهانئين على ضفافها، فما أن تقترب ستصدمك رائحة البحيرة التي سرعان ما تشي لك بأنها حوض ضخم للمياه العادمة، والبيوت ما هي إلا ألواح من صفيح أو حجارة متهالكة للفقراء الذين لا يجدون ما يقتاتون به في قرية “أم النصر” شمال القطاع بمحاذاة الحدود مع إسرائيل. أمام منازلها المسقوفة بألواح القرميد العتيقة كانت تجلس سونيا أبو غزالة (50 عاما، أُم لخمسة أبناء)، وهي تجول ببصرها على امتداد حوض المياه العادمة الضخم، وفي ذهنها تجول أسئلة تكاد لا تنتهي عن وقت نهاية مأساتهم الممتدة منذ زمن بعيد، ابتسمت بخجل وهي تقول ل “الشرق”: “بصراحة في أحيان كثيرة أتعجب كيف أننا مازلنا على قيد الحياة ، فالموت يحاصرنا من كل جانب، من الشمال الجنود الإسرائيليون الذين يتسلون بإطلاق النار علينا ليلا ونهارا، وبجوارنا برك المياه العادمة التي يسكن فيها كل ما يسبب المرض والموت، والقرية شبه معزولة عن العالم الخارجي فلا أحد يحب أن يزورنا، ولا مجال لنجاح أي مشروع داخل حدود القرية، ونعيش على ما تقدمه لنا المؤسسات الإغاثية من مساعدات “. وتضيف وهي تبتعد ببصرها وكأنها تبحث عن مفردات تصف حالها: “عائلتنا تتكون من 16 فردا، أصغرهم يبلغ عشرين عاما، جميعهم بمن فيهم زوجي عاطلون عن العمل، ولا يوجد لدينا دخل على الإطلاق، لا ندري ما نفعل، أنا أعجز عن وصف الحالة”. أما الرجل الخمسيني صبحي الأبرق، (لديه سبعة أبناء)، فكان يمسك بعصا يداعب بها الأرض وكأنه يريد أن يرسم لوحة سريالية تعبر عن همومه. ويقول ل “الشرق”: “الجميع يحب المطر إلا سكان هذه القرية، فكل حبة مطر زائدة يمكن أن تسبب كارثة، قبل أربع أعوام فاضت هذه البرك على منازلنا بعد أن انهارت جدرانها بسبب كثرة الأمطار، يومها لم يكن لدينا أي مكان نهرب إليه، فاستسلمنا لمصير أقله أن تعيش طوال عمرك مريضا”. يصمت الأبرق لحظة مع نسمة ريح خفيفة هبت وهي تحمل رائحة أحواض المياه العادمة التي تبعث على الغثيان، ثم يتابع: “مستقبل شبابنا ضاع.. أولادي الشباب تضيع أحلامهم مع الريح أمام عيني، وتتبخر مع تبخر هذه البركة السوداء.. لا أمل لنا من النجاة من الأمراض، كما لا يفصلنا عن الحدود مع إسرائيل سوى 300 متر ما يجعلنا في مرمى نيرانهم، وسقط من أبنائنا العديد من الشهداء، والفقر أكل أوصالنا، والأمراض تكالبت علينا”. ويوضح الأبرق أن حكومة “فتح” هي التي وضعتهم في هذا المكان قبل سنوات ووعدتهم بأن تضمن لهم حياة كريمة وأن تزيل أحواض المجاري التي تتسبب بتلوث المياه الجوفية لدرجة أن معظم سكان المنطقة مصابون بأمراض التيفوئيد وغيرها، إلا أن هذه الوعود – كما يقول الأبرق- ذهبت مع الرياح. ويؤكد د.محمد ياغي، مدير عيادة “أم النصر” التابعة للإغاثة الطبية ما تحدث به الأبرق ويقول ل “الشرق”: “المياه الجوفية في قطاع غزة وبالأخص في “أم النصر” ملوثة جدا بفعل أحواض المياه العادمة، وهذا يؤثر على مخزون المياه الجوفية الصالحة للشرب”. ويضيف: “منذ أن أقيمت هذه البركة فوق خزان المياه الجوفية من قبل إسرائيل تضررت العديد من البيوت، ووقعت حالات وفاة كثيرة من غرق وتسمم الأطفال المحيطين بالمنطقة وتكاثرت العديد من الحشرات والبعوض الذي يسرع في نقل الأمراض والفطريات ناهيك عن ارتفاع نسبة النترات في المياه التي من شأنها إحداث العديد من الأمراض في الجهاز الهضمي، وأحدثت العديد من تشوهات لدى الأجنة، وانتشرت الأمراض الجلدية في فترات الصيف خصوصا، وانتشرت القوارض والبراغيث التي تنتقل للإنسان بسهولة بين سكان المنطقة”. ويبين كامل أبو غايدة، رئيس قسم الشؤون الإدارية لبلدية قرية أم النصر أن نسبة الفقر في القرية تصل إلى 97% بسبب ازدياد معدلات البطالة وبفعل الحصار، وعدم وجود فرص عمل، وهذا أدى لاعتماد الناس بشكل رئيس على المعونات الإنسانية التي لا تفي بالحاجة على الإطلاق. أطفال وشبان يتنقلون بين الأوحال طفلان يجلسان إلى جانب بحيرة لمياه المطر أطفال وشباب يتجمعون قرب إحدى بحيرات المياه العادمة