افتح عينيكَ إلى السماء وانظر إليها، وحدق فيما يجول في هذا الملكوت العظيم، وتذكر أن الطبيعة لم تأتِ عبثاً أو صدفةً، وإنما هناك شروقٌ في الكون يتجدد وفجرٌ على الميثاق يتعهد. إنها آلة الزمان تتدحرج في فضاءٍ عابرٍ تبرقُ كالنصل في جعجعة المعارك الغابرة، هذا الزمان الذي يمشي من ورائك ومن خلفك لا يهرول ولا يتوقف أبداً ولا يكون ساكناً كما تراه، وإنما هي ديمومةٌ متناقضة تصطدم في بعضها لتنشأ بعضها، ها هي جدلية المادة في الكون الفسيح. وما نحن إلا أشلاء وذرات مترامية الأطراف فيها. نعم ذرات تحيا وتتجدد بفعل التناقض. حينما أنحاز إلى طرفٍ يُخيل إليَّ أنها الحقيقة التي أبحث عنها وما وجودي إلا إثباتٌ لعدمية الوجود المسبق. فالوصول للطرف النقيض ليست نهاية الحقيقة، وإنما هي محاقٌ ينبثق منه فجرٌ جديد كالأهلةِ في الأجرام السماوية القابعة وراء الكواكب الفضائية السحيقة. فوجود الخير ووجود الشر من نقائض المخلوقات التي يديرها البشر بلا تصرفٍ أو تدبير ولا مراعاةٍ لقوانين السماء العادلة، تجد في حياتك أناسٌاً يرون الخطيئة كفراً بواحاً، أو نشوء فطرتي في بيئة مختلفةٍ دينياً عن بيئةٍ أخرى، وما ذنبي إن كان هذا أو ذاك! التسامح جميل في حياتنا وهو الغالب فيه، وأما العداء والبغضاء والكراهية هي شيءٌ من صغائر حياتنا؛ إذ نحن مَن هوّلناها وضخّمناها دون أن ندرك أن حقيقة وجودها هو التنافس الشريف. وإن من عجائب الأمور أننا لم نفهم حقيقة هذا الوجود، ولم ندرك أهمية الأجرام من حولنا، وأن سيرورتها تحكمها قوانين لا يمكن أن تفنى من دونها، ولا تنشأ إلا بسحابة العدل الإلهي صانع هذا الوجود ومسيرهُ. قتل الإنسان ما أكفره، من أي شيٍء خلقه؟ أسئلة وألغاز تدل على أن الإنسان لا يفني إلا نفسه رغم وجود هذا الإنسان منذ خليقته الأولى بين مخلوقاتٍ عظام أشد منه بأساً وأغلظ منه مخلباً، وأجدر منه على التكيف بين فصول الحياة المتلاطمة والمتعارضة في التضاريس الواسعة والمتغلبة في المناخ القعير. فالإنسان عدوه الإنسان وإن تساوت الألوان فاختلاف المذاهب تكفي لفنائه؛ لأنه لم يعلم بأن الاختلاف مرآة لآلة الزمان وسنن كونية تختبرنا، هل نستحق الحياة والعيش فيها. التعايش لا يسبقه إلا التسامح، والإخاء لا يسبقه إلا المودة، والتراحم لا يسبقه إلا بياض القلب، والعدالة لن تتحقق إلا بوجود عقولٍ نيرة عرفت مفهوم جدلية الوجود وتناقضاته الصغيرة. فالإنسان كالكون شوائبهُ قليلة، وأمانيه كثيرة، وهو يفكر كيف يسبق زمانهُ كأنه يسبق موته. وهذا لب ما نعانيه اليوم، فالتطرف سمة كونية لها وجودها الديالكتيكي سواء في المادة أو المجتمع. ولكن هي أنواعٌ متنوعة في محيطنا البشري، منها يأتي تدرجاً كتغيير أحوال المجتمعات وطبقاته سواء بحدوث تقلبات كونية أو صراعات بشرية حول أطماع مادية، وهذه تعتبر طبيعية ومتفاوتة زمنياً، أي أن حدوثها متباعد، ولا تشكل خطراً حقيقياً على الجنس البشري، طالما لها قانون ينظمها، ما عدا تلك الحروب العظمى الأخيرة التي انفلتت عن جادة الصواب. وإني أرى أخطر أنواع التناقضات هي التي نعيشها اليوم، تناقض بلا معنى سوى مجرد اختلاف المذهب من داخل الدين الواحد، وهذا أشد مظاهر التطرف فتكاً التي كادت أن تبيد أوروبا بسبب اختلافها المذهبي والفكري، لولا تداركه العقلاء من فلاسفتها. ولكن يبقى السؤال ألا يوجد بيننا عاقلٌ ينهي هذا الصراع الذي يمزق جسد الأمتين العربية والإسلامية معاً؟ لا جواب لدي إلا بحالة واحدة القضاء على الجهل المظلم لينبثق منه نورٌ جديد.