نشر الصحفي بن توب تحقيقاً موسَّعاً في مجلة «نيويوركر» الأمريكية بعنوان «ملفات الأسد»، وتضمّن ما يقول إنها «وثائق سرية جداً» تربط النظام السوري بالقتل والتعذيب الجماعي، فيما قد يشكِّل مع الصور التي التقطها أكبر ملف قضائي منذ محاكمات نورمبرغ لمجرمي حرب القيادة النازية. وتمكّن «توب» الذي يتابع الحرب من الاطلاع على هذا «الكنز» بعدما دعاه الخريف الماضي المحقق في جرائم الحرب «بيل ويلي» الذي عمل في محاكم دولية عدة لمعاينة عمل لجنة أسسها لتحضير الدعوى ضد المسؤولين الكبار في النظام السوري، شرط ألا يكشف موقع المقر والحكومات التي تساعده وأسماء العاملين معه، عدا بعض الاستثناءات. وقرر ويلي خوض هذا التحدي بعدما شعر بالإحباط من «الروتين الجيوسياسي» الذي غالباً ما يطبع السعي إلى تحقيق العدالة. ولأن عملية جمع الأدلة وتنظيمها في دعاوى هي عملية إجرائية صرفة، أنه يمكن القيام بذلك قبل توافر الإرادة السياسية للتحقيق في القضية. وتولى ويلي، بناءً على طلب من الحكومة البريطانية، تدريب مجموعة من السوريين في إسطنبول على جمع الأدلة التي قد تكون مفيدة في دعاوى جرائم الحرب. وكلف مستشاراً أمنياً اختيار بعض الناشطين السوريين والمحامين الذين طلب منهم تجنيد أصدقاء موثوق فيهم. ودرب ويلي الناشطين على تصوير فوهات المدفعية وقياسها وجمع الشظايا وتحديد أنواع الأسلحة المستخدمة وغيرها، ولكنه لفت إلى أن «الشيء الكبير الذي أردنا أن يركّزوا عليه كانت الوثائق الصادرة عن النظام» والتي وصفها بأنها «ملك أو ملكة الأدلة في محاكمات جنائية دولية». وبعد دورات تدريبية عدة، دعا ويلي ستيفن راب الذي كان في حينه السفير الأمريكي المتجول لمسائل جرائم الحرب، للتحدث إلى نحو 12 سورياً جندوا للقيام بالمهمة. وكان الرجلان التقيا قبل عقد، إذ كانا يعملان لصالح محكمة رواندا. وخلال اجتماع لهما في إسطنبول ناقشا إنشاء مركز يمكن أن يؤوي الوثائق التي يتم الاستيلاء عليها ويمكن استخدامها لاحقاً في محاكمات. ومع أنه يعود إلى مجلس الأمن وحده إحالة الأزمة السورية إلى المحكمة الجنائية الدولية، قال ويلي إن اللجنة حدَّدت أيضاً عدداً من «المجرمين الخطيرين» الذين دخلوا أوروبا، «وهي ملتزمة جداً بمساعدة السلطات المحلية في الملاحقات القضائية». وكانت الأممالمتحدة أنشأت لجنة للتحقيق في الانتهاكات لحقوق الإنسان في سوريا، إلا أن تفويضها لم يمتد إلى المحاكمات، وبدل الاعتماد على الوثائق، ركّزت الأممالمتحدة خصوصاً على مقابلات مع شهود في مخيمات اللاجئين وعبر سكايب. وعندما عاد الناشطون والمحامون الذين صاروا محققين، إلى سوريا، وضع ويلي خطة لإنشاء اللجنة من أجل العدالة والمساءلة الدولية، وخصص ميزانية لها. وكانت بريطانيا الداعم الأول لهذا الجهد، إلا أن العثور على ممولين آخرين شكَّل تحدياً. وبمساعدة راب، تمكنت اللجنة من تأمين ثلاثة ملايين يورو من الاتحاد الاوروبي.بعد ذلك، تعهدت كل من ألمانيا وسويسرا والنرويج والدانمارك وكندا توفير تمويل ثابت. ويروي توب أن مهمة المحققين كانت شاقة، ولكنهم تمكنوا من نقل 600 ألف صفحة من الوثائق الحكومية إلى خارج سوريا من خلال عمليات سرية عبر تركيا خصوصاً، ولكن غالباً ما كانت القوات الحكومية تحاول تدمير كل الملفات التي تعجز عن حملها معه اإذا اضطرت إلى الانسحاب. وكان «المحققون» السوريون يرافقون مجموعات من المقاتلين المعتدلين في هجماتهم على مقرات للأمن المخابراتي. وسجل ضحايا بين «المحققين» أولهم واحد قضى بالرصاص عام 2012 عندما كان يركض محاولاً تهريب حقيبة مملوءة بالوثائق. وجرح اثنان آخران لاحقاً، فيما قضى شقيق نائب رئيس اللجنة في مكمن نصبته القوات السورية. إلى ذلك، خُطف»محققون» كثر على أيدي مجموعات جهادية، إلا أن جميعهم حرروا مع أن الإسلاميين المتطرفين كانوا يشكِّلون خطراً على عملهم بقدر تهديد النظام. وكان الجزء الأصعب من مهمة «المحققين» يتمثل في نقل الوثائق إلى الحدود. تلك العمليات تطلبت آليات وعمليات استطلاع لتحديد هويات نقاط التفتيش وعددها، الأمر الذي اضطر اللجنة إلى الدفع لمقاتلي المعارضة والمراسيل للدعم اللوجيستي. ويقول ويلي:»أنفقنا مبالغ ضخمة لنقل هذه الوثائق». وفي إحدى المرات، تركت بضع مئات من صفحات الوثائق في مزرعة امرأة سورية مسنة. وعندما حل الشتاء، اضطرت إلى إشعال القسم الأكبر منها مستخدمة إياها للتدفئة. وعندما كانت الوثائق تخرج من سوريا كانت تنقل إلى مكتب في أوروبا الغربية، حيث تولى محللون ومحامون دراستها بعناية ودقة. وبينما كان «المحققون» يتابعون عملهم في سوريا، وظف ويلي محللون سياسيون وعسكريون ومحققون مترجمون ومحامون في أوروبا دأبوا على تحليل تلك الملفات والوثائق لإعداد دعوى ضد الأسد.وبحلول 2015، بلغت قيمة الموازنة السنوية للجنة ثمانية ملايين دولار وارتفع عدد موظفيها إلى 150. وبدل تركيزها على الضحايا، أعادت اللجنة بناء سلسلة القيادة محاولة تحديد المسؤولية الجنائية الفردية من خلال ربط الأحداث. ويأخذ القانون الجنائي الدولي في الاعتبار أن المرتكبين الرفيعي المستوى نادراً ما يكونون حاضرين على مسرح الجريمة، وأن القانون المتعلق بمسؤولية القيادة العليا واضحة جداً، وأن الأسد ونوابه أشرفوا على نظام القتل والتعذيب وأخفقوا في منع الجرائم والمعاقبة عليها. ويرأس لجنة العدالة والمساءلة الدولية محققون ومحامون دوليون عملوا في المحكمة الجنائية الدولية لرواندا والمحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة والمحكمة الجنائية الدولية وغيرها. وعرف هؤلاء جيداً إلى ماذا يحتاجون. وتربط القضية التي أعدتها اللجنة التعذيب المنهجي و قتل عشرات آلاف الأشخاص بسياسة الاعتقال والاستجواب التي وضعتها اللجنة الأمنية العليا التابعة للأسد. أما سياسة قمع المتظاهرين فقد أقرها الأسد شخصياً ونفذها عملاء للنظام من مستويات دنيا ومتوسطة كانوا يرفعون تقارير إلى اللجنة الأمنية. واستهدفت تلك السياسة منظمي الاحتجاجات وأعضاء في التنسيقيات «الذين كانوا يشوهون صورة سوريا في وسائل الإعلام الأجنبية». كان الهدف الأساسي لسياسة القمع تحقيق نتائج ملموسة، «لذلك كان المحققون من المخابرات الأمنية يعذبون المعتقلين لإجبارهم على الإفصاح عن معلومات، وصولاً إلى إجبارهم على الإدلاء باعترافات كاذبة». وتظهر الوثائق أيضاً أن خلية الأزمة طلبت لوائح باسم عملاء المخابرات الأمنيين الذين يُعَدون مترددين أو غير متحمسين. وبعد اعترافهم بجرائم تحريض على العصيان وخيانة وإرهاب، كان المتهمون يحالون إلى محاكم باتهامات خطيرة ويسجنون. وغالباً ما كان المعتقلون يموتون جوعاً أو اختناقاً أو نتيجة الأمراض في زنزانات مكتظة بالسجناء وفي ظروف مروعة. أما جثث المعتقلين الذين يقضون في الزنزانات أو خلال الاستجوابات فكانت تنقل إلى مستشفيات عسكرية وتصور ثم يختفي أثرها. وأكد بن توب أن الدعوى حاضرة لإحالتها على المحكمة، وأن اللجنة تعتقد أنها تملك أدلة كافية لإدانة الأسد بجرائم عدة ضد الإنسانية. وقال إن «عمل اللجنة توج أخيراً بملف قانوني من 400 صفحة تربط التعذيب المنهجي وقتل عشرات آلاف السوريين بسياسة مكتوبة وافق عليها الرئيس السوري بشار الأسد ونسقتها الوكالات الأمنية الاستخباراتية ونفذها عملاء للنظام كانوا يرفعون تقارير عن عملياتهم إلى دمشق». ويلخص الموجز القانوني الأحداث اليومية في سوريا بعيون الأسد ومعاونيه وضحاياه، ويقدم سجلاً لعمليات تعذيب ترعاها الدولة وهي خيالية لناحية حجمها ووحشيتها. ومع أنه سبق لناجين من سوريا أن تحدثوا عن أعمال كهذه، إلا أنه لم يسبق لأحد أن لاحقها إلى حد الوصول إلى أوامر موقعة لتنفيذها». وقال المدعي ستيفن راب الذي رأس فرق الإدعاء في المحاكمات الجنائية الدولية لرواندا وسيراليون قبل أن يتولى منصب السفير المتجول للولايات المتحدة لمسائل جرائم الحرب، إن الملفات الموجودة في حوزة لجنة العدالة والمساءلة الدولية أغنى من أي شيء رأيته، ومن أي أمر حققت فيه في هذه المنطقة». يقول راب « إنه عندما يحين يوم العدالة، ستكون لدينا أدلة أقوى بكثير مما كان معنا في أي وقت منذ محاكمات نورمبرغ». وأقرّ بأن العدالة بطيئة وتتحكم فيها الجغرافيا السياسية بقدر الأدلة. واللجنة غير سياسية وتنتظر اليوم الذي تستطيع فيه تقديم ملفاتها إلى المحكمة الجنائية الدولية. وتعد هذه القضية التحقيق الدولي الأول في جرائم حرب الذي تنجزه وكالة مستقلة على غرار لجنة المساءلة والعدالة الدولية وتموله حكومات دون تفويض من محكمة.