كرصاصة طائشة، انفلتت من بندقية الحقيقة، ووصلت إلى القلب لتدمي ما بقي من «حشرجاته»، وشهقاته، تظل «فلسطين» حرفاً نابضاً بالوجع، هارباً من قوس ميادين المعارك السياسية، والحبكات الإعلامية، والمؤامرات، والمزايدات، تظل فلسطين كبيرة على الوجع، تظل كلمة مستعصية على سطور النسيان، وعلى انشغال قنوات الأخبار اللامبالية، التي اعتنت بنشر «غسيلنا اليومي»، واعتادت على حكايات رغيف الوجع العربي في وجبتها المكررة، التي صارت أكثر الأفعال اعتيادية وروتينية، وكأننا اعتدنا على سماع التكرار اللامبالي لقصصنا التي فاقت الألم، ففي كل اتجاه نكبة، وفي كل عنوان جرح، فأينما تدير وجهك ثمة آهات مختنقة، وبحة لا يكفيها ابتلاع حقول اليانسون العربي كي تصدح أصواتنا بنبرة الحياة. هذا الأنين لأناس ينتظرون فرصة واحدة، ليقولوا ال «آه «، ليخرجوا ما ابتلعوا في بطونهم من الحسرة، ومن مشوار عمر أعزل لا يحمل أكثر من تَرِكة التعب. «فلسطين» هذه الرصاصة، التي سكنت جيوبنا العربية، وخبَّأنا فيها حلم الانتصار، واستعادة قضية العرب الأولى، فلماذا صار اسم فلسطين يخرج عفوياً على استحياء، ليحكي معاناة الشعب الفلسطيني، التي غيَّبتها الأحداث الأخيرة عن الضمير العربي الغائب، المبني للمجهول؟ ولماذا صار اسمها يركض هارباً بين الأزقة، فلا يعرف من أين تجيء الجراح؟ ومن أين تفر الرماح؟ وكأني أتخيل أعداءنا الصهاينة، يرقدون هانئين وفي بطونهم كل «بطيخ الصيف العربي» بعد أن أشغلونا عنهم بخلافاتنا لكي ننسى! وكيلا ننسى، فإن علينا أن نتذكر وجه عدونا القبيح قبل أن يجرَّنا إلى مستنقع العداوات والخلافات، التي استهلكتنا كي نتذكر ما يريد منا أن نتذكره، وننسى ما يفرض علينا أن ننساه. إننا نحتاج إلى ذاكرة أكبر من النسيان، ذاكرة تكفي لاستيعاب خريطتنا العربية الملونة بالعزة والقوة والشجاعة، نحتاج إلى أن نتذكر كيف نعلِّم أجيالنا معنى الحقيقة، ومعنى العزة، حتى لا تغيب فلسطين عن البال، وكي تظل في الخاطر رمزاً لكياننا العربي والإسلامي، وكي نظل نُطلُّ على منابر القدس من على سفوحنا العالية، ونحن نعدها بالوصول، ونعاهدها على التذكر والعودة، ونحن نحث الخطى. فأين أنتِ يا فلسطين من خريطتنا الإخبارية؟ أين منَّا نزفك ونبضك الثائر؟ أين غبتِ بوجعك فينا، وتواريتِ عن مآقينا؟ لا تسقطي من زجاج قطارنا العربي حتى لا نَضِلَّ ونخطئ الطريق لآخر معقل في كرامتنا العربية.. لا تسقطي، فنحن نريد أن نلوِّح بمناديل الوصول قبل أن يغيب القطار خلف الجبال ماضياً نحو الغياب. فأعيدوا لنا الذاكرة كي نتذكر، والرياح كي نسير، والعناوين كي نعود. يقول الشاعر محمود درويش: ومن المقهى إلى المقهى لماذا يهرب الشعر من القلب إذا ما ابتعدت يافا؟ لماذا تختفي يافا إذا عانقتها؟ لا ليس هذا زمني وأريد الصفة الأولى لأعضائي وأعطيني ذراعي لأعانق ورياحي لأسير.