حين التحدث عن الثقافة، وتقفِّي أثرها حول العالم مترامي الأطراف، نجد أن الثقافة التهمتها عديد من الجهات المهتمة بثقافات الشعوب، وقد نجد مَنْ يفصِّل لها مقاسات جيدة، ومنهم مَنْ يزيدها طولاً واتساعاً، ويجعلها فضفاضة، أو يضيِّقها حتى تنفرط خيوطها عند قراءتها، وكل واحد منهم يعتمد على الرؤية الشخصية، أو العامة لمَنْ أسدى خدماته للإثراء المتشدق، أو المتواضع حولها، وعليه تُضيَّع معالم بعض الحضارات، أو تُغيَّب «أُبهتها»، أو يُبالغ في بهرجتها حتى يسقط القارئ في غوايتها، وينتشي طرباً، فيدغدغ مَنْ حوله بجمال «متضوضع» حائر. ويبدو تأثير الثقافة جلياً عند عرض مسرحي لثقافة مغايرة، وهذا مجرد «نَدف» من عدة «نُدف» من أمثلةٍ كرائعة شكسبير «عطيل»، التي نعرف تأثيرها على الفرد الأوروبي، لكن هذا التأثير سيختلف إذا وُجِّه العرض إلى «متفرج مسلم»، وحُلَّت العقدة عندما يقتل البطل صاحبته ثم ينتحر. لقد كانت عبقرية المؤلف الإنجليزي، هو إثارة وجدان «المتفرج»، وبما أن المشاهد من نفس البيئة، التي تفجَّرت منها «إبداعية المؤلف»، وتمتد جذورهما من الأرض ذاتها، فتفاعله وتقبُّله المؤثرات يعدان من البديهيات والمسلَّمات، أما جذور المسلم فتمتد من أرض أخرى، بالتالي فإن قابلية تقبُّله، وتأثره، ستكون مرتهنة لمدى انفتاح ثقافته، فقد يجد ذاك المشهد الذي أبكى الفرد الأوروبي يُضحكه، والأمر هو أن «المتفرج الأوروبي» ينظر إلى المشهد من زاوية الحساسية الجمالية، أما «المتفرج المسلم» فينظر من زاوية الحساسية الأخلاقية، لذلك سلوكهما سيكون مختلفاً. نأتي إلى مسألة لا يمكن تجاهلها، التثقيف العائلي، إنها الساقي الأساسي لأفرادها، والمؤثر الحتمي في سلوكياتهم ومبادئهم، فكل عائلة تنشئ أفرادها على منهج وقيم معينة، قد تمد أفرادها بالسقاية النقية التي تنمِّي مهاراتهم وسلوكهم وإبداعهم نحو مستقبل أنيق، أو تسممهم بسقي عكر، فيتلوثون بالظلمات والانتقام والشر، فلا نتوقع لهم مستقبلاً واضحاً. فنحن مَنْ نُعرِّي الثقافة، أو نكسيها جمالاً، فلا يكفي المنطق والفكرة لننهض بها، إنما منطق العمل والحركة يكفل أن نستر عريها، ونلبسها أفخم الحلل. فهل يمكن أن ننقل ما نتمتع به من ثقافة بوعي باسق، فعلياً وعملياً، إلى مَنْ حولنا من الثقافات الناهضة والمتوهجة، وإن لم نتفق معهم في الأفكار والسلوكيات، وأن نتجاوز الأساليب المستذئبة لإخضاع الآخرين لتقبُّل ما عندنا، ونترفع عن اللفظيات الخادشة لفطرة البشرية؟!