اتخذت الصلات بين الشرق العربي والغرب الأوروبي عبر التاريخ، أشكالاً شتّى. منها الشكل الصدامي الحربي الذي تمثّل في التوسّع اليوناني، ثم الروماني، وفي الفتوحات العربية الإسلامية من حصار بوتييه إلى غزو الأندلس، وفي الحروب الصليبية، ثم في حركة الاستعمار، وقيام الكيان الصهيوني. ومنها الشكل التجاري، وهو دائم متصل في مختلف حقبات التاريخ. ومنها الشكل العلمي الثقافي المتمثّل في حركة الترجمة من اليونانية إلى العربية التي قام بها المسيحيون من خلال بيت الحكمة، وحركة الترجمة التي قام بها بعض المستعربين من اللغة العربية إلى اللغة اللاتينية، لغة القرون الوسطى في الغرب الأوروبي. كان لهذه الصلات أثرها الثقافي البالغ لجهة التأّثر والتأثير، فإذا كان الغرب يتباهى بأنه حمل إلى العالم العقلانية، ودولة القانون، والديموقراطية، وحرية الضمير والمعتقد، وحقّ الاختلاف في الرأي، وحمل الحرية إلى المرأة، وفجّر ينابيع الإبداع في الشعر والنثر، فإن الشرق العربي كان سباقاً في إيصال العلم والفلسفة إلى الغرب، فمن غير الممكن تصوّر الحضارة الغربية من دون ثمار العلم العربي: فن الجبر للخوارزمي، والتعاليم الطبية والفلسفية الشاملة لابن سينا، وعلم الجغرافيا، وفن رسم الخرائط للإدريسي، والعقلانية الصارمة لابن رشد. بل الأهم من عمل أي شخص فرد، كانت المساهمة الإجمالية للعرب تلك التي تقع في صميم الغرب المعاصر، أي إدراك أن العلم يمنح الإنسان القدرة على تسخير الطبيعة لمصلحته. وفي كلام آخر، أعادت قوة العلم العربي تكوين المشهد الثقافي الأوروبي، فهي التي شكّلت أساس العمل الأصيل لكوبرنيكوس وغاليلو، وجعلت هذا الغرب الأوروبي يقف وجهاً لوجه أمام حقيقة أن الشمس - لا السكن الدنيوي لهذا المخلوق الذي هو الإنسان - هي مركز الكون. وقد شرح ابن رشد القاضي الفيلسوف من الأندلس للغرب الفلسفة الكلاسيكية، وكان أوّل من أدخل إليه التفكير العقلاني. أما القانون في الطب لابن سينا فظلّ مرجعاً في أوروبا حتى الثورة العلمية مثله مثل غيره من الكتب التي تتحدّث عن البصريات والكيمياء والجغرافيا. تغييب متعمد يمهّد هذا الكلام لكتاب «مناحي التأثر والتأثير بين الثقافات» (منشورات مكتبة بيسان - بيروت) للكاتب السعودي علي بن إبراهيم النملة. وهو كتاب يميل إلى تعقّب مظاهر التأثير العربي في الغرب على خلاف ما يقوم به عدد من المؤلفين في إبراز مظاهر التأثير الغربي في العرب. يكتب صاحب الكتاب أن الإشكال الذي يحاول تجليته هو: «غلبة النظرة إلى التأثر بالحضارات والثقافات الأخرى في زماننا هذا على حساب النظرة إلى التأثير بها، في تغييب غير موضوعي – ومتعمّد أحياناً - من جانب بعض المؤرخين الغربيين للحضارة والثقافة» العربيتيين. ودورهما في إغناء الحضارة العالمية. يعتبر الكاتب السعودي أن الغلبة جاءت في النظرة الغربية من خلال التجاهل الواضح للأثر العربي الإسلامي في بناء الحضارة الإنسانية في غالب الدراسات، ومن خلال تغييب أثر العلماء المسلمين وإنجازات العرب المسلمين الحضارية رغم الأخذ عنهم، وهذا اتهام له ما يثبته في التراث العلمي الغربي للتأريخ للعلوم، حينما تتجاهل الحقبة الإسلامية التي مارست الأثر الكبير في نقل العلوم اليونانية والهندية والفارسية إلى اللغة العربية مباشرة، أو من طريق اللغة السريانية، ثم جرى نقلها من اللغة العربية إلى اللغات الأوروبية. وعطفاً على الأثر الذي تركه نقل العلوم من العربية إلى اللغات الأوروبية يشير الكاتب إلى الأثر الديني الذي تركه القرآن الكريم والسنة على الديانات والملل والنحل التي جاءت بعد الإسلام، من ذلك الكونفوشية التي أخذت من الإسلام بوضوح، ومن ذلك أيضاً تأثّر مؤسّس القرائية اليهودية عدنان بن داوود بالمذهب الحنفي. ويشير الكاتب إلى الأثر الذي تركته «الفلسفة الإسلامية» لجهة تهذيب التراث الفلسفي السابق وتحقيق نتائجه القديمة وتصحيحها، وأكبر مثل على ذلك انتقال ابن رشد من قرطبة إلى الغرب من خلال ترجمة مايكل سكوت وفردريك الثاني أعمالَه، وقد أرسلت هذه الترجمات إلى الجامعات الإيطالية، ومنها إلى جامعة باريس فأدرك أساتذتها أن في إمكانهم نشر ابن رشد كبطل لهم في ساحة الصراع مع الفقهاء ورجال الدين، وذلك من خلال الاعتبار القائل إنه يمكن التعويل على الفلسفة التي كانت محتقرة من جانب رجال الدين كمصدر للحقيقة، بمقدار ما يمكن التعويل على الوحي، ولا يمكن أن يكون بينهما تعارض، وبهذا النهج العقلي غيّر ابن رشد المشهد الفكري الغربي قبل خمسة قرون من ديكارت الذي اعتبر حجر الزاوية في الفلسفة الحديثة. ويذكر المؤلف أن أيّام ازدهار الحضارة العربية في الأندلس كانت البعثات التعليمية تفد من الغرب إلى بلاد العرب. وقد أفاد الغرب من هذه البعثات التي عادت إلى أوروبا متأثّرة بالفلسفة العربية والعلوم العربية، ومن بين أفرادها كان آديلارد أوف باث الذي نقل إلى الغرب في العصور الوسطى روائع علم الهندسة وعلم الفلك وعلم النجوم، ومن بين أفرادها أيضاً فردريك الثاني الذي ذيّل بنفسه ترجمات ابن رشد وابن سينا وابن ميمون، والبابا سيلفستر الثاني الذي تعلّم العلوم والتكنولوجيا العربية كطالب في الأندلس ونشر معرفته في سائر أنحاء أوروبا. رفض وترويج والجدير ذكره أن هذه البعثات لم تأخذ طابع التأثّر المتوقّع فقط، بل إنها مارست مهمّة التأثير التلقائي، لا سيما أن انتقال الحضارة إلى الغرب عبر الأندلس وفلاسفتها العرب قد ووجه بنمط من أنماط الرفض من جانب بعض الفئات المتدينة المتطرفة، فكان هناك تصادم بين الكنيسة والعلم، ما ألجأ العلماء للخروج من هذا المأزق الحضاري إلى الترويج للعلمنة والحداثة في الوعي الأوروبي. لا ينسى المؤلف السعودي أن يأتي على ذكر أثر الوجود الإسلامي في الغرب ودوره في إنعاش عملية التأثر والتأثير بين الشرق العربي والغرب الأوروبي. فالمسلمون الذين هاجروا إلى الغرب وأولئك الذين يتحدرون من صلبهم أمثال المسلمين الروس والأتراك والبلقان والمغاربة والهنود بمن فيهم الباكستنيون والنغلاديشيون ومسلمو شمال أفريقيا والمسلمون الوافدون من بلاد الشام، لم يقتصر تأثيرهم في البعد السياسي والاقتصادي، وهو تأثير ذو شمولية، بل دخل في سلوكيات شخصية واجتماعية، مثل النظافة واستخدام الماء بتطهير الأبدان من النجاسات من خلال الوضوء والاغتسال والحمية أو الأنماط الغذائية. كما دخل في الفن والأدب والسلوك العام، وطاول العمران من خلال ارتفاع المآذن وعمارة المساجد وإنشاء المراكز الإسلامية والمؤسسات الاجتماعية والتربوية والتعليمية. ويخلص الباحث السعودي إلى أن مسألة التأثر والتأثير بين الثقافات مسألة حتمية تفرضها العلاقات بين الأمم والشعوب والأصل أن كلاً منها يقدّم للآخرين أفضل ما يملك، ويأخذ منهم أفضل ما يملكون. لذلك، فإن جدلية التأثر والتأثير بين الثقافات لا تسير في خط مستقيم، بل تأخذ الشكل الدائري حيث يصبح الكل متأثراً ومؤثراً، في ما يشبه تصوّر أرسطو للحركة التي تسير في شكل دائري. كتاب الوزير السعودي السابق يفتح آفاقاً جديدة أمام القارئ العربي، ويدعوه إلى اعتبار عملية المثاقفة بين الشرق والغرب أقوى من أي تعصّب عرقي، وأقوى من أي انغلاق باسم الخصوصية الثقافية.