لم تمر حوادث الاعتداءات الجنسية ليلة رأس السنة (31 ديسمبر 2015) في بعض المدن الألمانية مثل كولونيا وهامبورج مرور الكرام، بل أسست لمعطيات جديدة وقدمت تبريرات مكنت اليمين المتطرف في ألمانيا من إعادة طرح مسألة طرد اللاجئين إثر اتهامات وجهت لبعضهم بأنهم قد تورطوا في التحرشات وعمليات الاغتصاب الجنسية التي شهدتها ساحة محطة القطار أمام كنيسة كولونيا، وقدمت بعدها قرابة 600 امرأة بلاغات بالتحرش الجنسي والاغتصاب لنساء ألمانيات، لتنقلب أجواء تلك المدن من مرحبة باللاجئين إلى أجواء الرفض والارتباك. هذه الحادثة ترتقي لمستوى الجريمة التي يعاقب عليها القانون المحلي والدولي، فقد أثارت كثيراً من ردود الفعل والتجاذبات، ليقفز نجم مناهضي اللجوء من اليمين للواجهة فبدأوا في إعادة الترويج لمقولاتهم التي لا تخلو من العنصرية ضد الأجانب. وبالمقابل، فإن المجتمع الألماني، الذي وقعت جرائم الاغتصاب والتحرش على أرضه، ليس مجموعة قطيع ينقاد وراء البروباجاندا الإعلامية على طريقة العالم الثالث، بل على العكس من ذلك. فبينما كانت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل تبحث عن تشريعات جديدة تضبط سلوكيات اللاجئين من مختلف أصقاع الوطن العربي المنكوب بالصراعات، كانت مجاميع أخرى تنظم تظاهرة مناهضة لمظاهرة اليمين الذي يريد قذف اللاجئين في البحر مرة أخرى، وكانت مظاهرة وفعالية العقلاء أكبر من المتطرفين. وعلى الرغم من ذلك فقد أثرت حوادث الاعتداءات الجنسية على حياة اللاجئين وبدأت ألمانيا في ممارسة نفوذها على بلدان المصدر وأحكمت الحدود خصوصا مع النمسا، فتقلصت أعداد الذين يسمح لهم بدخول الأراضي الألمانية، بعد أن بلغ العدد الكلي في عام 2015 وحده نحو مليون لاجئ نسبة السوريين منهم تشكل الكتلة الأكبر. ما حدث ليلة رأس السنة يعتبر حفلة زار لشباب متهورين أرادوا التنفيس عن الضغوطات النفسية التي يعانون منها بتفريغ طاقاتهم الجنسية المكبوتة عبر الاعتداء على الفتيات اللاتي تجملن ليحتفلن برأس السنة الميلادية. ومع أنها جرائم نكراء، إلا أن المسؤولين الألمان لم يصابوا بالهستيريا، ولم يفقدوا عقلهم، ولم يتجاوزوا القانون أو يركبوه عنوة، فقد كانت ردة الفعل الأولى للمستشارة الألمانية هي البحث عن تشريعات جديدة تضبط إيقاع تدفق اللاجئين وسلوكيات بعضهم، ولم تقدم على عقاب جماعي لملايين اللاجئين بسبب ألف موتور اعتدوا على النساء الألمانيات أمام الكاتدرائية في مدينة كولونيا. لقد استنفرت دولة القانون والمؤسسات الألمانية لتبحث عن الحقيقة وليس لتلصق التهم جزافا، أو تجرجر الأبرياء للتحقيق والمحاكم دون دليل. وأفاد تقرير لشرطة مدينة كولونيا بعد الحادثة بأنه «لم يكن باستطاعة الشرطة المحلية حماية جميع النساء اللاتي تعرضن للاعتداء الجنسي، وذلك لكثرة المعتدين بشكل فاق طاقة الشرطة». وجاء وزير العدل الألماني هيكوماس فقال في مؤتمر صحافي «ينبغي توخي الحذر فيما يتعلق بالاتهامات الموجهة للجناة». وذهب وزير الداخلية توماس دي ميزيير إلى التشديد على «ضرورة عدم تعميم الشكوك على كل اللاجئين.. المظهر الخارجي للمهاجمين ينبغي ألا يؤدي إلى الاشتباه عموما باللاجئين الذين بغض النظر عن أصلهم، يأتون إلينا طلبا للحماية». وأكملت رئيسة بلدية كولونيا بالقول «ليس لدينا أي دليل على أنهم لاجئون يقيمون في كولونيا أو محيطها.. هذا الطرح غير مقبول». ومع ذلك فالأحزاب المعادية للهجرة وجدت في حادثة الاعتداءات الجنسية فرصتها للترويج لأفكارها، كما فعل الأمين العام للاتحاد الاجتماعي المسيحي أندريا شوير الذي قال «إذا كان طالبو لجوء أو لاجئون قد ارتكبوا هذه الاعتداءات فيجب إنهاء إقامتهم في ألمانيا فورا». أما لوتز باخمان مؤسس حركة (بيجيدا) المتطرفة التي تظاهرت في مدينة كولونيا فقد ارتدى قميصاً كتب عليه «اللاجئون المغتصبون غير مرحب بهم». هذه الضغوطات أجبرت حكومة أنجيلا ميركل على اتخاذ إجراءات إضافية، أعادت بموجبها المئات من الذين يعبرون الحدود النمساوية يوميا. كأنما الاعتداءات التي تمت هي نتيجة لتجسيد ضلع من أضلاع الثالوث المحرم في البلدان الأصلية للاجئين: الجنس والسياسة والدين، ففرغ الموتورون، بعد حفلات صاخبة بدأت مبكرا من ليلة رأس السنة، جام غضبهم في النساء المتمايلات في الشوارع وهن في الطريق لحفلات تمتد حتى مطلع الفجر. لكن ألمانيا تحديدا مصابة بكارثة تاريخية من الاعتداءات وعمليات الاغتصاب التي ارتكبها جنود الحلفاء بعيد هزيمة النازية في الحرب العالمية الثانية عام 1945. ويسجل التاريخ أن أعظم اعتداء على النساء في أوروبا حدث في ألمانيا وكان المغتصبون أساسا من الأمريكان والسوفييت والفرنسيين وجنودهم من شمال إفريقيا. وتشير بعض الروايات إلى أن 100 ألف امرأة تم اغتصابها في فيينا، ليس مرة واحدة بل عدة مرات. وفي استجواب الكونجرس الأمريكي في (يوليو 1945) اعترف الجنرال إيزنهاور القائد العام لقوات الحلفاء في أوروبا وشمال إفريقيا، بأنه عندما دخلت القوات الفرنسية والأمريكية مدينة شتوتجارت الألمانية ساقوا النساء إلى أنفاق المترو وتم اغتصابهن جميعا مرات عدة ثم جرى إعدامهن جميعا، ويقدر عددهن بألفي امرأة. وعندما دخلت القوات السوفييتية برلين هرعت النسوة إلى عيادات الأطباء طلبا للسم لكي ينتحرن قبل أن يقعن ضحية الاغتصاب. وفي مدينة نابولي الإيطالية سمح لجنود الحلفاء باغتصاب كل نساء المدينة، وسجلت 60 ألف حالة اغتصاب. الألمان الذين لايزالون على قيد الحياة يتذكرون جرائم الحرب تلك، وربما أيدوا في أعماقهم دعوات اليمين المتطرف بطرد اللاجئين من ألمانيا. وتلك كارثة أخرى على اللاجئين.