كانت المجتمعات الإنسانية – عبر تاريخها – تبحثُ عن العدالة خارج منظورها المادِّي المحسوس، وهذا لشعورها باستحالة العدالة من هذا الجانب الذي تمثله أيدي البطش بشعاراتها الدينية أو الاجتماعية الجوفاء، فلجأتْ إلى الغيبيات التي ترى أنه بإمكانها التحكم المطلق في الحياة، باحثين عن مفقوداتهم الإنسانية (العدالة) في أرجاء الغيب، فوجدها بعضهم في رموز مادّيّة وثنيّة كالأصنام والتماثيل أو رموز من الطبيعة كالشمس والقمر أو حتى الحيوانات والكائنات والأماكن، ووجدتها فئة أخرى في البحث عن هذه القوة القادرة على تحقيق العدل، فلجأوا إلى بعض المظاهر بحثا عنها كقصة إبراهيم عليه السلام باحثا عن ربه في الشمس فلما أفلتْ قال (إني لا أحب الآفلين)، ثم اكتشفوها في إيحاء غيبيّ إلهيّ عندما وجد ربّه – تعالى – وبدأ بعده الأنبياء يتلقّون وحيا من الله كل بطريقة تختلف عن الآخر وخصوصا أهمهم وأشهرهم: موسى، عيسى، محمد، عليهم السلام. وانتهتْ فكرة النبوات، ونابتْ عنها في اليهودية فكرة الشعب المختار الوريث ورفض الآخر مطلقا وهو أقسى ما سيواجهه العالم مستقبلا من المَيز العنصري، وفي المسيحية فكرة الكهنوتية وصكوك الغفران الشهيرة التي انتهتْ بالثورة الكبرى على الكهنوت وفصل الدين عن الدولة، وفي الإسلام لم تزل تراوح بين ما يشبه الكهنوتية شبها شديدا كأنظمة المَلالِيْ أو ما يسمّى (ولاية الفقيه) التي كانتْ أيضا نتاجا طبيعيا لما أسماه الجاحظ (الشعوبية) أي: حقد غير العرب على العرب نتيجة لاستبداد العرب بعد الفتوح الإسلامية ضد الشعوب الداخلة ضمن دين الإسلام، وما يقابل هذه الكهنوتية في البلدان العربية والإسلامية الأخرى من المذهبية الدينية التي تركبها الأنظمة الحاكمة لتوجيهها حسبَ مصالحها وإراداتها التي تصب في استحواذها على حكم وتملّك الأرض ومن عليها. وقد مرّت الشعوب العربية بمراحل واضحة لمن يعرف تاريخها حق المعرفة. إذ انتهت حقيقة أو جوهر الفتح العربي أو قل (الإسلامي) بمعركة (بلاط الشهداء) في جبال (بواتيه) الفرنسية الإسبانية، وبعدها عمّتْ ثقافة المُلك الإمبراطوري التي كانتْ قد ترسختْ في المشرق بمجرّد حكم بني أمية. ثم تحولت البلاد المفتوحة إلى أزمنة من الملوك والسلاطين لمجرد الملك والقوة بعيدا عن الهدف الذي نجح به المدّ العربي (الدين)، وبهذا تحوّل الدين إلى وسيلة سياسية ولم يعدْ هدفا حقيقيا، حتى تناهتْ هذه السلطنات إلى دويلات تآكلتْ وجاء دور أوروبا (الديالكتيكي) لاستعمار هذه الشعوب وغيرها في العالم، ولم يلبث المدّ الثوري التحرري أن سيطرَ على العالم حتى استقلّتْ شعوبه سياسيا ومنها الشعوب العربية لكنْ بالشرطِ الأوروبِّيّ العلمي الاستراتيجي (زنقة.. زنقة.. وكل زنقة إمارة مؤمّرةٌ مزنَّرة) بعيدا عن التوحّد العربي القديم الأخطر على الآخر، فصارتْ بعض الدول العربية الحالية التي لا تساوي مدينة صغيرة دولةً ذات سيادة، ولمْ يبقَ للثقافة العربية التي تجمع هذه الأقطار أو (الشعوب!) أي أثر يمكن أن يجمعها ذات يوم! كان زعماء الثورات العربية الحديثة رموزا وطنية كبرى تقود الاستقلال والحرّيّة، وما لبثتْ هذه القيادات أن فهمتْ خطأً أنها هي فقط رمز الحرية دون سواها حتى من شعوبها (الرعية)، واستمرّتْ في تدوير وتدويخ الشعوب كل عام بمنجزاتها قبل خمسين عاما وأكثر، بينما (ديالكتيك) الزمن يسير، والبشر يريدون – لا شعوريا – السير مع الزمن والحاجات (نريد أن نعيش وأن نكُونَ شيئا)! ليبيا الأكثر والأنقى عروبةً في شمال أفريقيا عليها أن تحتفلَ بطرد ملِكها وكل ملك كل يوم! ومصر أم الدنيا وكنانة العرب تريد أن يكتفِيَ فيها الشعب بالهتافات كلما أطل الحاكم بأمره احتفاء بانتصاره، وعليهم ألا يبحثوا عن أسباب فقرأمّ الدنيا وهزال دورها في ريادة العرب! وتونس وجهُنا الحُرّ وشعلةُ وعينا العربي يجبُ أن تعيش تحت وطأة بوليسية يحكمه وزيرٌ (للداخلية)! واليمنُ السّعيدُ عليه أنْ يبقى سعيدا دونَ الاعتراف بأنه مهدُ العروبة الحرّة! والشام عليها أنْ تؤمنَ بفكرةٍ عجماء اسمها (الممانعة – والبعث والصمود الصامت) دون أن يكون لشعبها العظيم مفاعلة أو فعل في هذه المصطلحات ! وعلى الخليج – بين عربية التسمية وفارسيتها – أن يحدِّدَ ماهيته وفصيلته التي تؤويه في ظلّ (الديالكتيك الحتميّ للتاريخ)! وعند هذه النقطة وقف الربيع العربي، وتحت بيرق الحرّيّة الجديدة قد يعود الإنسان العربي إلى البحث عن العدل ببحثه عن أمله بتجاربه الأولى في ظلال الميثولوجيا ما لم تستطع شعوب هذا الربيع فهم تلكم الميثولوجيا بمستوى فهم الشعب التونسي كما سمعناه من رموز إسلاميّيه إن صدقوا.