لكل جيل زمنه وذكرياته، أحلامه وطموحاته، انتصاراته وانكساراته، شعاراته وعباراته. عشنا زمن الإذاعات والشعارات القومية والناصرية، البعثية والاشتراكية: «أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة» و«من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر…»، حينها لم تكن كثير من الدول العربية نالت استقلالها بعد. كل ثورات العرب -تقريباً- قامت من أجل تحرير فلسطين ورمي الكيان الصهيوني في البحر. لا فلسطين تحررت ولا أكثر الدول العربية بقيت مستقرة. هكذا بدا المشهد السياسي وقتذاك، سنوات من الديكتاتوريات العسكرية والتسلط والاستبداد والعنتريات الرعناء التي أهلكت الحرث والنسل، ودمرت مقدرات الأمة وأسهمت في تردي وضع العالم العربي إلى ما هو عليه اليوم. سلمت من العدو فما دهاني سوى من كان معتمدي عليه في المشهد الاجتماعي: كان أكثر الناس يأوون إلى بيوتهم بُعيد صلاة العشاء، البعض يتسامرون في منتديات ومقاهي الطائف المأنوس، حين كان الأنس صفة وحالا ملازمة للطائف. «العسة» بصافرته وهراوته يبقى حاضراً يجوب أزقة الحارة يراقب مداخلها ومخارجها ويطلق صافرته بين حين وآخر ليؤكد يقظته ويطمئن أهل حارته ويحذر اللصوص والمجرمين. يتغير هذا الروتين حين تكون هناك مناسبة اجتماعية فتتحول الحارة إلى حراك شعبي. الترابط الاجتماعي كان في أفضل حالاته، الكل يسهم ويشارك حسب طاقته وقدرته وإمكاناته. تستمر أغلب تلك المناسبات ثلاثة أيام بلياليهن، يجتمع فيها الأقارب والأصدقاء والجيران والمعارف من كل الفئات والطبقات، في جو من الألفة والمودة والتسامح. يفرش السجاد في إحدى الساحات أو أمام إحدى الدور الكبيرة، تعلق عقود الإضاءة وتمد الموائد، سقى الله تلك الأيام. الدهر مذ كان لا يبقى على صفة لابد من فرح فيه ومن ترح قبل زمن متعهدي الإعاشة والبوفيهات المفتوحة والفنادق، كان الطباخ يأتي بعدته وأدواته فيتخذ من أحد الأحواش أو الأركان مسلخاً ومطبخاً، «يُرَكِّب» قدوره ويوجه معاونيه ويبدأ تحضيراته. أشهر طباخي الطائف حينها عمر تمر واليماني والخشي والفياضة، عدد القدور يتناسب مع حجم المناسبة ونوعها وعدد المدعوين أو الحضور. المعلم أو الطباخ هو من يقدر الكمية مع صاحب المناسبة، غالباً يكون هناك أكثر من قدر يشرف عليها الطباخ، الذي يتولى وضع المقادير ويتأكد من نضج الطبخة وعدم احتراقها. للطباخين فنونهم وأساليبهم حين تختل المقادير، فعندما يزيد مقدار الملح مثلاً يضعون كمية من البطاطس فتمتص الملح، وحين يحترق جزء من الطعام يضعون أرغفة من الخبز فتخفف من طعم ورائحة الاحتراق. حين ينضج الطعام، وغالبا ما تكون إحدى الأكلات التي تشتهر بها مدينة الطائف كالأرز البخاري أو الزربيان أو السليق أو الكابلي أو بالحمص مع اللحم، يتم توزيعه في صحون كبيرة (تباسي) وتقدم للحضور مع ما يتبعها من السلطات والأطباق الجانبية ك(السنمبوسك) أو (اليغمش) و(المنتو) إضافة إلى الحلويات، وذلك حسب نوع المناسبة. بيوت الجيران وسكان الحي الآخرين يُرسل لهم نصيبهم من الطعام في أوانٍ تسمى (المعشرة) أو (المطبقية). الفقراء أيضا لهم حصتهم، حتى الحيوانات كالقطط والكلاب لها نصيبها وحصتها من بقايا اللحم والعظام. لم يحصل أن احترقت طبخة أو انفجر قدر أو اختل مقدار من المقادير فلم يكن الطعام كافيا أو لم توزع كميات الطعام على الكل، فالحرفية والمهنية هما ما يميز عمل طباخي ذلك الزمن. تذكرت كل ذلك وأنا أراقب حال المنطقة العربية اليوم وهذه القدور التي تفور في كل مكان من اليمن إلى العراق وسوريا ولبنان وفلسطين إلى ليبيا، ناهيك عن الإرهاب العابر للقارات. المنطقة تحولت إلى مطبخ كبير لانعرف كثيرا مما يطبخ فيه، ومع أن الطبخات ليست جديدة على المنطقة، إلا أن الجديد تنوع الطبخات وكثرة الطباخين والمعاونين. طبخات اليوم تختلط فيها الجغرافيا مع التاريخ وتتشابك فيها الطائفية مع الإرهاب، وتتقاطع السياسة ومصالح الدول والمحاور مع كل ذلك. في حال نضجت هذه الطبخات أو بعضها فسيكون التوزيع على أسس طائفية وعرقية ومذهبية، هذا عدا الأطباق الجانبية!! وفي حال احترقت وفقا للمثل الدارج: «كثرة الطباخين تحرق الطبخة» فستحرق معها كثيرين، وتبقى كل الاحتمالات الأخرى واردة. فظيع أمر ما يجري وأفظع منه أن تدري