المفارقة بين المثالية والواقعية تبدو جلية نظرياً وعملياً. فمن منظور الدعوة إلى المثالية، يذهب الرأي إلى إظهار قوى الخير لدى الفرد، باعتباره خيِّراً بطبيعته الإنسانية، وتُركز هذه الدعوة على صقل الذات لجعلها أنموذجاً نزيهاً استناداً على فكرة: قدرة الإنسان على بلوغ مرتبة قريبة من الكمال، أو كاملة نسبياً. بينما يذهب الواقعيون للاعتقاد التام بتنازع قوى الخير والشر بداخل الإنسان، وترجيح وتقبل -أحياناً- تبرير مكر الفرد وخبثه وخطئه، باعتباره إنساناً واقعياً ليس كاملاً بطبيعته. تبقى هذه القناعات راسخة في ذهن الفرد، لتوجه مسارات حياته المختلفة. الساعون لإعلاء قيم الخير اجتماعياً وسلوكياً يظلون يبحثون عنها سياسياً أيضاً، بينما أتباع الرأي الآخر «الواقعيون» يتعايشون مع تضارب القيم من حقل لآخر بشكلٍ أخف وأكثر تعايشاً -ربما لأنهم مؤمنون بالطبيعة البشرية المتناقضة-. يظل الاختلاف قائماً والمزيج الإنساني واقعاً بين رأي «يحارب التناقض» وآخر «يقبله بهدوء»! ومما لا شك فيه أن هذه الأسس الفكرية تؤثر في مسار الفرد وانخراطه في مجالات الحياة. والفكرة المحورية هنا تصب في نسبية السعي لتحقيق مكاسب الخير أو القيم العليا، لأن المثالية أو الكمال كالعدالة الاجتماعية قيم منشودة من الإنسان لكنها مستحيلة الوصول! والنسبية واقع يقارب جوانب كثيرة في حياتنا، النجاح على سبيل المثال؛ فبلوغه نسبي ودرجات وتصنيفات، فالناجح في تجربة استثمارية بإنشاء شركة تجارية صغيرة لا يعادل المستثمر بشركة قابضة أو مجموعة شركات، كما أنه لا يشير إلى عدم التورط في خسارة مالية كبيرة، لكنه يؤكد على مواصلة العمل لتحقيق هذا النجاح. وهذا شبيه بالسعي نحو الكمال النسبي، فالساعي لنشر الصدق لا يعني أنه لم يكذب أبداً في حياته، ولو لمرة واحدة! لكنه مُتيقن بأفضيلة الصدق وضرورة سيادته على الكذب والتلاعب، ولهذا يكابد ما يكابد من أجل إعادة سلطته. الفساد المتشكل بحسب المجالات والاتجاهات يخضع لهذا التجاذب بين الرأيين، ولهذا ينشأ الاختلاف حول بعض المفاهيم، كالمداهنة؛ التي تعتبرها جماعة ما من الفساد الأخلاقي والنفاق المذموم، وتودداً يهين كرامة الإنسان ويأخذه إلى القاع من أجل المصلحة. بينما يعتقد الآخر أنها مُداراة محمودة وذكاء للتعاطي مع أصعب وأدق القضايا، من أجل تحقيق المصلحة فردية وعامة على حد سواء. وهنا تكون الترجمة السلوكية لمصطلح «المداهنة» و»المداراة» واحدة، لكن الفرق في الفهم لها والهدف المرجو من ورائها. الخلاصة؛ يعيش واقعنا بين هذه التجاذبات في الرؤى، ولهذا تظهر جماعة تحارب الفساد الأخلاقي وتتغافل عن الفساد المالي وقد تكون شريكة فيه، والأكثر من ذلك أنها لا تعتبره شكلاً من فساد الأخلاق. وعلى الضفة الثانية؛ جماعة تلاحق الفساد المالي وتتجاوز عن الأخلاق. كما أن هناك من يحارب الفساد اقتصادياً أو أخلاقياً أو سياسياً عندما يفعله الآخرون، بينما يُبرر لنفسه لو قام بالفعل ذاته. وتستمر الحياة مع هذه المعادلات الموزونة تارة وغير الموزونة تارة أخرى. ويبقى السؤال: أيهما المنتصر في النهاية؟