تحدثنا في المقال السابق عن حرب البلوبونيز قبل الميلاد التي دارت رحاها بين مدينتي أثينا واسبرطة، وما نتج عنها من اتجاهات يونانية فكرية- سياسية مختلفة، أحدها بزعامة المؤرخ ثوسيديدز، وآخر وكان بقيادة السفسطائيين، واتجاه ثالث وتحمس له سقراط. أما السفسطائيون فكانوا عبارة عن مجموعة من المعلمين المتجولين الساعين إلى تفسير الحرب بشكل عملي نفعي، فكانوا وهم يقتاتون بما يتحصلون عليه من عوائد تلاميذهم وخاصة الأغنياء منهم، مؤمنين بأن كل شيء نسبي، فلا مانع أن يتلون الإنسان وفقاً للزمان والظروف والمكان، ولا عجب فهم من فصلوا بين الأخلاق والسياسة، وعلّموا الناس كيفية انتهاز الفرص للعمل بها وصولاً للحكم، فكل فرد في نظرهم يمكنه أن يعمل في السياسة بأسلوب الجدل والمنطق والتأثير في الآخرين، لذلك كان تركيزهم منصباً على إعداد النشء المتعطش للنجاح حتى وإن كان الثمن تحلل القيم وسيادة روح الفردية، مؤمنين أن الحق للقوة وهي أساس الشرعية السياسية، بينما القانون والتمسك به ما هو إلا سبيل الضعفاء الذين لا يملكون حماية أنفسهم، بل إن من تعاليمهم أن العدل في أن يكون نصيب الأقوياء ومنالهم أكثر من الضعفاء، لأن العدل هو مصلحة الأقوى كما يعبر عنه أحد روادهم ويسمى»ثراسيماخس». كرد فعل لقانون الغاب السفسطائي، كان لابد لإنسان بأخلاقيات سقراط أن يظهر، وبإصرار المصلح الاجتماعي يحاول التغلب على الذي حاول السفسطائيون بثه، فنادى سقراط بقيم العدالة المطلقة (مناداة مثالية نعم، ولكن هل نملك ألا نؤيدها ونسعى في نشرها وتحقيقها؟) ورفض مفهوم النسبية وكون الحكم مأرباً لأي فرد، حيث إن الحكم في رأيه هو للأكثر معرفة، وفي ذلك ينطق بمقولته الشهيرة «الفضيلة هي المعرفة»، مؤكداً على أن الإنسان خيّر بطبعه، أما الشر فهو نتاج جهله، وبالتالي كان اهتمامه منصباً على التعليم كأساس لتبلور الفضيلة، فلم يشغل سقراط شيء قدر عنصري الفضيلة والعدالة المجتمعية، فالأول وتتضح معالمه في القيم الأخلاقية المستقرة التي لا تتلون باختلاف الزمان والمكان والظروف، والعنصر الثاني ويتمثل في احترام القانون وسيادته، أما حكاية أن أي شخص يصلح للمنصب السياسي فلم يؤيدها سقراط مطلقاً، فمهمة السياسي أو رجل الدولة في القاموس السقراطي هي مهمة أخلاقية - سياسية، فالحاكم من جانب هو من يدير شؤون دولته بمواطنيها، ومن جانب آخر، المعرفة أساس للحكم الصالح، وبما أن هذين الجانبين لا يتوفران في كل الناس، فتكون المحصلة أن ليس كل فرد صالح للحكم. كان من نتائج آراء سقراط المعادية للسفسطائيين، وللديمقراطيين معهم (من أهم انتقاداته للديمقراطية أنها تغفل التركيز على أهمية المعرفة المتخصصة وبالتالي يتاح الحكم لمن يصل إليه وإن لم يتمتع بقدرات عقلية وذهنية مؤهلة، فالديمقراطية تساوي بين المواطنين وآرائهم، بينما الحكم ينادي بالمعرفة والكفاءة) أن حوكم الفيلسوف العجوز بتهمة إفساد الشباب وسب الآلهة، الأمر الذي انتهى بتنفيذ حكم الإعدام في حقه بعد أن رفض الفرص التي أتيحت له للهرب من سجنه بتدبير من تلاميذه، لأن الفرار في عرفه كان يمثل عملاً غير أخلاقي يخرق به القوانين التي طالما نادى بالالتزام بها، فهل رفض الهرب في مقابل التراجع عن آرائه والنجاة من الإعدام كما عرض عليه؟ التاريخ يقول أن سقراط فضل الموت عن التخلي عن الأخلاقيات التي كرس حياته لها، ولأن أفلاطون وهو تلميذ سقراط النجيب كان قد تأثر بإعدام معلمه فقد آثر أن يهجر السياسة، مع العلم أنه من عائلة أثينية ارستقراطية عريقة كانت تعدّه للعمل السياسي، فهل استمر أفلاطون على موقفه الانعزالي؟ هذا ما سنتعرف عليه في مقالة أخرى.