الشرق تحاور «الشهيد الحي» اللواء مصباح صقر (3-6) في الحلقة الثانية من قصة حياة أول رئيس لجهاز الأمن الوقائي الفلسطيني الشهيد الحي اللواء مصباح صقر، والتي تنفرد “الشرق” بنشرها على مدار ست حلقات، وجه صقر اتهاما صريحا للقيادي في حركة فتح محمد دحلان بتدبير مكيدة ضده طمعا في تولي منصبه. وفي الحلقة الثالثة تتكشف حقائق جديدة عن الصراعات داخل أجهزة الأمن الفلسطينية بعد تأسيس السلطة الوطنية. ويتهم اللواء مصباح صقر، في هذه الحلقة، قائد الشرطة الفلسطينية في منتصف التسعينيات العميد غازي الجبالي بالتآمر عليه للإطاحة به من منصب رئيس جهاز الأمن الوقائي بعد كشفه ما أسماه علاقاته النسائية المشبوهة وعمل امرأة في منزله تدير شبكة للدعارة ولها اتصالات مع أشخاص مشبوهين أمنيا، ويوضح صقر أنه قدم تقريرا بهذه المعلومات للرئيس السابق ياسر عرفات، والذي أحالها للجبالي نفسه. ويروي مصباح صقر ل “الشرق” تفاصيل القبض عليه من منزله ونقله إلى سجن في مقر الشرطة الفلسطينية بعلم غازي الجبالي، ويكشف صقر تعرضه ل “تعذيب معنوي وجسدي” داخل السجن وإدعاء الجبالي إصابته بالخلل العقلي، مشيرا إلى دور القيادي الفلسطيني سليم الزعنون للإفراج عنه ليوضع بعدها قيد الإقامة الجبرية ويفقد منصبه. ياسر عرفات ومصباح صقر (الشرق) غزة – محمد أبو شرخ وسيد زكريا الجبالي سجنني مع تجار المخدرات.. ثم ادعّى أننى مختل عقليا سليم الزعنون توسط للإفراج عني.. ووُضِعتُ قيد الإقامة الجبرية “والله العظيم لتندم” لم يكن هذا التهديد الصريح الذي وجهه المقدم -وقتها- محمد دحلان لرئيسه في جهاز الأمن الوقائي الفلسطيني اللواء مصباح صقر سوى رسالة للأخير بأن موعد رحيله من منصبه اقترب. لم يتوقع اللواء مصباح ما جرى بعد ذلك من أحداث، كانت في غرابتها أغرب مما يحدث في مشاهد “السينما” أو حتى في الخيال، فالرجل الذي دفع ثمن إخلاصه وحبه لهذا الوطن الذي كافح من أجله قرابة الخمسين عاما، أمضى 24 منها مختفيا عن عيون الإسرائيليين ومنغمسا في العمل المسلح لتحرير بلاده، قادته الأقدار لأن يدخل زنازين الشرطة، أسوة باللصوص والمجرمين وأرباب السوابق، وأن يُتّهم خلال فترة سجنه القصيرة بأنه “مختل عقليا” كي يقوموا ب”التغطية” على “جرائمهم” بحقه، وفي هذه الحلقة المثيرة، يستمر اللواء مصباح صقر في سرد كل هذه التفاصيل التي يرويها ل “الشرق” حصريا. عودة لما سبق إذا أردنا توضيح ما جرى، فيلزمنا بالتأكيد العودة إلى الوراء لنحو 18 عاماً، وتحديدا في عام 1994، عندما تم تعيين اللواء مصباح صقر كقائد لجهاز الأمن الوقائي بتكليف خاص من الرئيس الراحل ياسر عرفات بنفسه، وهو ما فاجأ العديد من الجهات والأطراف الفلسطينية وغير الفلسطينية، حيث فوجئ الإسرائيليون بأن الرجل الذي لم يستطيعوا التأكد من وجوده حيا أو ميتا طيلة 24 عاما متصلة، لم يعد حيا فحسب، بل وقائداً لجهاز أمني فلسطيني شديد الخطورة، لكن الغريب أن عدوى المفاجأة أصابت العديد من زملاء “صقر”، من قادة الأجهزة الأمنية الفلسطينية الناشئة وقتها، خاصة أن كثيرا منهم كان يمني نفسه بأن يصبح قائداً لجهاز الأمن الوقائي، لما يمكن أن يعود به عليه من “نفوذ وثروة وعلاقة مميزة مع الجانب الإسرائيلي”، وانعكست هذه الأجواء بشكل مباشر على استقبال “اللواء مصباح صقر” من قادة هذه الأجهزة، وعلاقتهم معه، خاصة أن عمله داخل الأرض المحتلة على مدى ربع قرن تقريبا، بعيدا عن أجواء حركة فتح وفصائل المقاومة الفلسطينية الأخرى التي كانت سائدة في ساحة الخارج، جعلته يحتفظ بانضباطه وثقافته العسكرية وصرامة العمل الأمني السري ونقاء الانتماء للقضية، وهي صفات لم تكن، حسب رأيه، محببة في زمن التحول من الثورة إلى السلطة، وجعلت الكثير منهم يصنفونه من اللحظة الأولى في خانة الأعداء. وهنا نعود إلى مقدمة الجزء الثاني من حوارنا مع اللواء مصباح صقر، حيث المزيد من تفاصيل العلاقة بين “صقر” و”دحلان”، فمع صدور قرار عرفات بتعيين “صقر” رئيسا لجهاز الأمن الوقائي، قدم له “دحلان” باعتباره معيناً كمساعد لقائد الجهاز في قطاع غزة، ووقتها كان برتبة “مقدم”، ولا يخفي صقر أنه أعجب به في البداية وتوسم فيه الخير، فهو ذكي وطلق اللسان، لكن الحال تغير بعد فترة وجيزة. يقول اللواء مصباح صقر “بدأت أتوجس من هذا الضابط الذي لم يكن يستطيع التفريق بين الشجاعة الأدبية والوقاحة، واكتشفت ذلك بعد تكرار انتقاده أمامي للواء نصر يوسف، مدير عام الأمن العام وقتها، وبشكل علني دون أدنى احترام لفارق الرتبة، وقذفه له بأفظع الألفاظ لمجرد اعتراض يوسف على إنشاء جهاز الأمن الوقائي، بل ولم يسلم من لسانه بقية القادة، وحاولت وقتها أن أنصحه، خاصة أنني أدركت أن طموحه يتجاوز إمكانياته المحدودة في المجال الأمني، لكن ما أغضبني منه كثيرا هو حرصه أن يقضي سحابة الليل يوميا في مكتب الرئيس عرفات لينقل له كل المعلومات المهمة التي ترد إلى الجهاز من وراء ظهري، وهو ما سمح له بالتقرب إلى عرفات الذي لم يكن يراعي أي تسلسل قيادي في تعامله مع رغبته في معرفة كل ما يدور داخل الأجهزة الأمنية، دون اعتبار لتخطيه قادتها، والتأثير السلبي لذلك على الانضباط فيها”. ثم جاء يوم “القشة” التي قصمت العلاقة بين اللواء مصباح صقر والمقدم محمد دحلان، كان الأول منغمسا في وضع هيكلية كاملة لجهاز الأمن الوقائي في مكتبه بمساعدة من زميله العميد عبدالحي عبد الواحد، وهي الهيكلية الوحيدة التي وضعت لجهاز أمني فلسطيني في بداية تأسيس السلطة الفلسطينية، دخل دحلان وبرفقته الرائد رشيد أبو شباك، وبانفعال قال دحلان “إلى متى ستواصلون تضييع الوقت والثرثرة في هذا الأمر في حين أن الأجهزة الأخرى فتحت باب القبول وباشرت عملها وأكلت الساحة، ونحن هنا ننتظر ما تقومون به”، ولم يكن أمام صقر لمواجهة ما اعتبره “وقاحة غير مسبوقة ” إلا أن يطرده من مكتبه، ليرد عليه دحلان: “والله العظيم لتندم”! ويفسر اللواء مصباح صقر هذه الحادثة بعدم قدرة دحلان “غير المؤهل أمنيا”، حسب رأيه، الانتظار ليتم تأسيس الجهاز وفقا للأصول المهنية، وأن يتم اختيار أعضائه عبر لجان تفحص كل شخص يتقدم وتطبق عليه شروطاً ومعايير محددة، ويتابع صقر حديثه: “كل ما كان يريده دحلان أن يحشد أكبر عدد ممكن من أقاربه وأنصاره من شباب حركة فتح في الجهاز، ليكونوا سندا له في تحقيق مهمة الاستيلاء على قيادة الجهاز، وتحويله إلى جهاز خاص به يستخدمه لتحقيق طموحاته السياسية والمالية، وهو ما استطاع أن يقوم به لاحقا عبر قوائم أسماء كان يعرضها على الرئيس عرفات مباشرة، ليقوم بالتأشير عليها بالموافقة على تفريغهم في جهاز الأمن الوقائي دون العودة لقائد الجهاز”. منذ هذه الحادثة بدأ دحلان، كما يؤكد صقر، في العمل مباشرة على الوقيعة بينه وبين الرئيس”عرفات”، فهو الشخص الوحيد الذي كان يمتلك صلاحيات إقالة رئيس الأمن الوقائي من منصبه، وللوصول لهذه الغاية استخدم دحلان أربع نقاط رئيسية تحدث عنها صقر ل”الشرق” بالتفصيل قائلا “قام دحلان بتخويف عرفات من نتائج رفض الإسرائيليين لوجودي في رئاسة الأمن الوقائي، وعدم تعاونهم معه، وهي ورقة مزدوجة استخدمها دحلان لمساعدته على تقديم نفسه كرئيس فعلي للأمن الوقائي كونه من يلتقي الإسرائيليين وينسق معهم، وعلى الضغط على عرفات لإنهاء كابوس اعتراضات الإسرائيليين على وجود صقر التي لم تتوقف على مدار عامين كان فيها على رأس الجهاز”. ويضيف صقر: “فوجئت مرارا بأن المقدم دحلان كان يقابل الصحفيين الأجانب الذين يأتون إلى مقر الجهاز على أنه قائد الأمن الوقائي، ويتصرف أمامهم على هذا الأساس، رغم أن مكتبي لا يبعد عن مكتبه بأكثر من خطوات معدودة، وهذا موثق في كتابات هؤلاء الزوار، وخلال لقاءات دحلان اليومية والمنفردة بالرئيس عرفات، التي كان ينقل فيها كل صغيرة وكبيرة عما يدور في جهاز الأمن الوقائي، بعيدا عن أي تنسيق معي، حرص على تمرير فكرة ترفعي عن القيام بتقديم هذه الأخبار لعرفات، وبالتالي كان من السهل اقناع الرئيس بأن من عينه كرئيس لجهاز الأمن الوقائي غير متعاون معه”. وبحسب صقر استغل دحلان الإعلان عن فتح الباب أمام كل فلسطيني مهما كان انتماؤه السياسي للانضمام لدورة أمنية تمهد للعمل في جهاز الأمن الوقائي في الإدِّعاء لدى عرفات بأن هذه الدورة ستسمح لأعداء الرئيس من الفصائل الأخرى لأن يكونوا ضمن أفراد الجهاز، وهو ما دفع الأخير لإلغائها فورا، واستبدال دورة أخرى بها كان كل عناصرها تقريبا من أبناء فتح والموالين لدحلان. توقف صقر عن الحديث لثوان، قبل أن يكمل لاحقا بنبرة هادئة لم تستطع أن تخفي خلفها شيئا من الضيق وعدم الرضا: “دعني أتحدث معكم وبصراحة، لم أكن في مقابلتي معكم أريد الحديث عن علاقتي بدحلان، بحكم حساسية الموضوع وكي لا يفسر على أنه تصفية حسابات شخصية معه، لكن هذا الشخص اللغز أو بالأحرى حصان طروادة الفلسطيني ستكشف الأيام المزيد من الأسرار التي ستثبت مدى ارتباطه بأجندات خارجية، وتبين الأعمال التي سُخِّرَ لها ضد مصلحة الشعب الفلسطيني، على الرغم من كل الهالة المفتعلة التي أحيط بها من قبل دول وجهات خارجية، ومن الإمكانيات المادية والإعلامية والأمنية التي سخرت لخدمته، وأتذكر هنا ما تنبأت به مجلة تايم الأمريكية منذ قرابة العقدين من الزمن الذي يفيد بأن هذا الدحلان الذي لم يكن شيئا مذكورا آنذاك سوف يحكم دولة فلسطين الموعودة، مما يعزز الروايات المتداولة التي أوحت بأن هذا الحصان الفلسطيني قد تمت المراهنة عليه خارجيا منذ زمن بعيد”. ثم فرد صقر كفيه وهو ينطق كلماته بتمهل واضح، كان باديا منه أنه يزن كل كلمة وبدقة، قبل أن ينطقها: “إلا أنني هنا أكتفي بشهادة رئيس المجلس الوطني الفلسطيني، سليم الزعنون أمام اجتماع اللجنة المركزية لحركة فتح الذي ناقش تجاوزات دحلان عن هذه الفترة، وشهادة الزعنون تكشف أن دحلان تآمر على الوقيعة بيني وبين عرفات، وهو ما أعده أنا اتساقا مع الأهداف الإسرائيلية التي عملت على إزاحتي من هذا المنصب، وهذه الشهادة بحد ذاتها من رجل عمل بمجال القانون، ويعرف خطورة هذا الاتهام تكفيني وزيادة، وأنا أشكره عليها”. ويستطرد صقر: “لم يكن صعبا أن يجد دحلان أعوانا من قادة آخرين للأجهزة الأمنية التي اصطدمت معي، ليساعدوه في هذه الوقيعة، خاصة أن بعضهم كان يتمنى اختفائي عن الوجود لتُدفَن معي أسرار كنت كشفتها عن هذه الشخصيات بحكم رئاستي للأمن الوقائي، وفي مقدمتهم العميد غازي الجبالي قائد الشرطة الفلسطينية الذي كان يتحين الفرصة للانتقام مني بعد أن كشفت سر علاقاته النسائية المشبوهة، وعمل امرأة في منزله كانت تدير شبكة للدعارة، ولها اتصالات مع أشخاص مشبوهين أمنياً، وتقديمي لتقرير سري عن ذلك لعرفات، الذي اكتفى بأن يحيل هذا التقرير-الذي أطلعت “الشرق” عليه- للجبالي نفسه، الذي لم يكن أمامه سوى السعي لدفن هذا السر مع من أشاعه”. من جديد يعتدل صقر في جلسته ويشير بإصبعه في دلالة إلى أن الكلمات القادمة مهمة ومحددة، ويكمل: “إذا عدتم لشهادة سليم الزعنون أمام اللجنة المركزية فستكتشفون أن دحلان والمحيطين به كانوا حريصين كذلك على الإيقاع بقادة الأجهزة الأمنية الأخرى، وحتى بالسياسيين وكبار رجال السلطة الفلسطينية والوزراء وبعض أعضاء المجلس التشريعي، والزعنون يشير في شهادته إلى حادثة شهيرة تم فيها الإيقاع ب”شيخ معمم”، وكان عضوا في المجلس التشريعي، وتصويره في أوضاع مخلة مع فتاة دُسَّت عليه، وتحدث أيضا الشهيد سعيد صيام بعد استيلاء حماس على مبنى جهاز الأمن الوقائي عن عشرات أقراص الكمبيوتر التي وجدت عليها مشاهد مماثلة لكبار الشخصيات والضباط أو لأقاربهم من الدرجة الأولى، كان دحلان وفريقه يستخدمها لابتزازهم وإجبارهم على العمل لحسابه، وفي المقابل يجب أن نسأل كم إسرائيليا جند جهاز الأمن الوقائي أو غيره من الأجهزة الأمنية في خدمة الشعب الفلسطيني”. المذكرة السرية لكن أهم ما استفاد منه دحلان في عملية الوقيعة بين عرفات وصقر وحسم قرار خروج اللواء صقر من منصبه، مذكرة أمنية سرية بالغة الخطورة، قام صقر بإعدادها بعناية سعيا منه لتصحيح الأخطاء الفادحة التي رأى أنها تدمر منظومة الأمن الفلسطيني، وطبع منها عام 1996 ست نسخ فقط، أرسلت إحداها إلى الرئيس ياسر عرفات، فيما تم تسليمها باليد -طبقا لشهادة صقر- إلى كبار قادة الأجهزة الأمنية لتقييمها، وقد ذيلت كل صفحة منها بعبارة “محظور النشر”. هذه المذكرة التي نشرت بعد ذلك ككتاب تحت اسم “على هامش التجربة “، كانت القشة التي قصمت ظهر علاقة عرفات بصقر، بعد أن اجتمع كل أعداء الأخير على إيهام الأول بأنها موجهة إلى شخص عرفات، وأنها تحولت من مذكرة سرية إلى منشورات توزع في الشوارع، أُوغِر صدر عرفات لأنها في الحقيقة تضمنت نقداً شخصيا له، دون أن يعطي اعتبارا لأهمية ما جاء فيها لصالح السلطة والأجهزة الأمنية ودون أن يحاول أن يتأكد من صحة هذه الادعاءات. نفس عميق احتاجه صقر ليتذكر تفاصيل تلك اللحظات الصعبة جدا من حياته، ثم أخرج من أوراقه صحفاً قديمة وضعها على الطاولة الصغيرة التي أمامه، جميعها كانت تتحدث عنه، لكن هذه المرة لم تكن تروي ماضيه المشرف، بل تتحدث عن اعتقاله، والاستعداد لمحاكمته، وعن ادعاء “الجبالي” بأنه أصيب بالجنون. أمسك صقر بأولى هذه الأوراق، وبدأ يروي تفاصيل تحوله من قائد لجهاز الأمن الوقائي إلى سجين في مقر الشرطة الفلسطينية، التي كان قائدها يتمنى أن يختفي عن الوجود ليبقى ما يعرفه من أسراره طي الكتمان: “كنت في بيتي عندما حضر العميد سيد قطب الذي عين رئيسا لمحكمة عسكرية لمحاسبتي، وأخبرني أن الرئيس يطلب مني مقابلة قائد جهاز الأمن الوطني بالقطاع اللواء عبد الرزاق المجايد ليتم سؤالي عن بعض الأمور، ولم أكن أنوي الاستجابة لهذا الطلب، لولا اتصال تلقيته من مدير مكتب الرئيس العسكري العميد غازي مهنا، الذي ألح علي أن استجيب للطلب، لأن ترتيبات خاصة كانت تجرى لاعتقالي بقوة السلاح، وإذا استمرت مقاومتي فإن كل الخيارات ستكون متاحة لهم، فاستجبت وذهبت معهم، لكن المفاجأة أنهم بدلا من التوجه بي إلى مقر اللواء المجايدة، إذ بهم يقتادوني إلى مقر الشرطة الرئيسي حيث كان غازي الجبالي يحضر لي استقبالا يتناسب مع كرهه لي، بدأه بسجني مع تجار المخدرات والجنائيين، مرورا بساعات طويلة من التحقيق، المصاحب للتعذيب الجسدي والمعنوي، وصولا لعزلي في زنزانة انفرادية، مراقبة أربع وعشرين ساعة بالكاميرات وميكرفونات التنصت، وحرماني من النوم لعدة ليال بواسطة أصوات مزعجة”. لبرهة التقط صقر أنفاسه، وخلع نظارته الطبية، ثم واجهنا بنظراته التي تحمل كل معاني الجدية مضيفا: “الجبالي لم يكتف بكل هذا، بل نظم مؤتمرا صحفيا، ادعى فيه أنني مصاب باختلال عقلي، وعندما وصلني الخبر بعد أن أطلعني أحد ضباط الشرطة الشرفاء على الصحيفة التي نشرت التصريحات، بدأت على الفور إضرابا عن الطعام، لأنني خمنت مسبقاً أن معنى كلام الجبالي هو تمهيد لسيناريو حول امكانية أن يقوم هذا الشخص بشنق نفسه أو قتلها بأي وسيلة أخرى لأن قواه العقلية مختلة، وبالتالي توجست من أن هناك مؤامرة تحاك لقتلي وإظهار ذلك على أنه انتحار، ولم يكن هناك مفر من مواجهة هذه المؤامرة فورا بكل قوة وابتدءا من الامتناع عن تناول الطعام المقدم لي من أعوان الجبالي”. انتهاء هذه الأزمة احتاج لتدخل شخصي من سليم الزعنون “أبو الأديب” لدى عرفات، بعد أن أخبره العميد سيد قطب المكلف بمحاكمة صقر بأن هناك مؤامرة تحاك ضده من قبل دحلان لاستصدار حكم عال من المحكمة بأمر من عرفات، وقال العميد قطب للزعنون بالحرف “لن أنام الليل إذا حكمت على هذا الرجل الذي ظلم، وإذا لم أحكم بما يريدون سيتم طردي من عملي”، فأسرع أبو الأديب إلى عرفات ليتوسط في إنهاء الملف دون محاكمة، وهذه المعلومة الموثقة تحدث فيها أبو الأديب علنا أمام اجتماع اللجنة المركزية لحركة فتح الذي ناقش تجاوزات دحلان. وانتهى الأمر بإقصاء صقر عن رئاسة الأمن الوقائي، ووضعه في الإقامة الجبرية، ليكتفي صقر بمراقبة ورصد ما يحدث في الأجهزة الأمنية، ويسجلها في مستودع أسراره الذي فتحه لصحيفة “الشرق”. محطات في حياة اللواء مصباح صقر في منتصف الخمسينات كان ” مصباح صقر ” على موعد مع حدث غير مسار حياته، فمع قبوله في الكلية الحربية المصرية، انغمس في الحياة العسكرية التي أحبها وأحبته، فتخرج بتفوق عام 1957 ، والتحق بكتائب الأمن الفلسطينية في منطقة القنال، والتي كانت تحت إشراف مباشر من الجيش المصري . الضابط الشاب لم يرق له كثيرا أوضاع كتائب الأمن الفلسطينية، ولأن الإصلاح والتمرد على الأوضاع الخاطئة كان قدره، فقد بدأ مع بعض زملائه من الضباط الوطنيين في تنظيم صفوف هذه الكتائب مطالبين بتحسين أوضاعها وأوضاع المنتسبين إليها، ووصلت به الجرأة لتأسيس تنظيم سري باسم ” الضباط الفلسطينيون الأحرار” في مدينة (القنطرة شرق) المصرية عام 1959. ونتيجة لهذه المواقف المبدئية، ودوره في قيادة التيار الإصلاحي في هذه الكتائب، نفي بعيدا عنها مرتين، وحول إلى العمل الإداري، وعومل باضطهاد، و ظل تحت رقابة أجهزة المخابرات بصورة شبه دائمة. ومع ذلك استطاع ” النقيب مصباح صقر ” أن ينضم عام 1965 إلى حركة فتح، بعد أن نظمه ” سليم الزعنون ” الرئيس الحالي للمجلس الوطني الفلسطيني، والمرحوم “عوني القيشاوي” ممثل حركة فتح في قطاع غزة، مشترطا أن يكون هذا الانضمام سريا حتى يستطيع خدمة الثورة الفلسطينية بعيدا عن الأعين المتربصة به. وخلال حرب حزيران 1967 كان ” النقيب مصباح صقر” على موعد مع أول مواجهاته المباشرة مع قوات الاحتلال، حيث استبسل مع زملائه في الدفاع عن مدينة خانيونس، وحتى بعد سيطرة الجيش الإسرائيلي على قطاع غزة، بقي داخله لأواخر شهر أغسطس من العام 1967 لتهيئة وتجهيز أعمال المقاومة استعدادا لمرحلة قادمة لم تتأخر كثيرا . الجبالي وصقر يتوسطان قيادات أمنية فلسطينية (الشرق)
ضوئية لوثيقة تكشف عمل امرأة تدير شبكة دعارة في بيت الجبالي