يحار القلم عندما تكون الكتابة عن الإنسان، ذلك الكائن المتقلبة أحواله بتغيّر قناعاته وأهوائه، فما تمناه بالأمس وجهد من أجل بلوغه ملّه اليوم، وما ارتضاه لنفسه اليوم سيرفضه غداً، وحين يعجب بشيء يتغاضى عن عيوبه، أمّا إذا خالف هواه أشبعه ذمّاً وقدحاً: «وعينُ الرِّضا عن كلَّ عيبٍ كليلة ٌ** وَلَكِنَّ عَينَ السُّخْطِ تُبْدي المَسَاوِيا». وغالباً يكون هذا التغير واضطراب الحال سببه التوهم بأن الخير كله فيما ترغبه نفسه، فيعطل عقله ويحتكم لقلبه، ولو تصرف بوعي لتجنب كثيراً من التناقضات والمتاعب. والوعي (العقلانية) منبعه العقل والوجدان معاً وفصلهما عن بعضهما يُحدث خللاً في رؤية الأمور على حقيقتها. فعندما يختار الطالب الجامعي تخصصاً يحبّه ثمّ يفاجأ بعد تخرجه بوظيفة بينها وبين ما أمِل به بُعد المشرقين، سيشعر بالغبن ويأسى على طول الليالي التي قضاها في التهام المعلومات والجري وراء كل جديد يدعم مستقبله، ولربما حلم بشيء أكبر من ذلك، بالوطن وحاجاته! لكنّه سينتفض من حلمه بصدمة الواقع الذي لم يفكر به فتفتر همته وتخبو جذوة حماسه وينتابه الحزن. ولو نظر هذا الشخص إلى الأمر بعقلانية سيهون الأمر عليه، وسيرى أنّ غالبية الناجحين في العالم لم تكن تخصصاتهم سبباً مباشراً في نجاحاتهم. ثمّ إنّ للوظيفة هدفين رئيسيين أولّهما أن ينال بها عائداً مالياً يعينه على العيش بكرامة، وثانيهما أن يخدم بها وطنه، وما دام قد تحقق هذان الهدفان فإنّه سيتمكن من التكيّف مع طبيعة الوظيفة إن هو أراد ، وأساس هذا التكيف يأتي من القناعة التامة بنفسه وبقدرته على تحمل المسؤولية الملقاة على عاتقه، فالقدرة هنا لا علاقة لها بالحبّ أو البغض بل بالإخلاص والاستجابة إلى صوت الضمير، ومتى أيقن ذلك سيحصد راحة باله، ورضا عن نفسه، ومزيداً من الثقة، وجودة في الإنتاج مما سيؤدي إلى الارتقاء بنفسه وبالقطاع الذي يعمل فيه، وبذلك سيحقق نتائج باهرة، فيحب عمله ولن يتباكى على تخصصه بل ربما حمد الله على أنّه لم يعمل به!.