عندما انفجر محمد حسنين هيكل غضباً مفاجئاً وكتب كتابه الشهير (خريف الغضب) ليصب جام غضبه على الرئيس المصري السابق محمد أنور السادات، الذي وجّهه -ويا للعجب!- ليس للجمهور العربي، بل للجمهور الأمريكي، حينها كتب د. فؤاد زكريا رداً عليه سماه (كم عمر الغضب) الذي أوضح للعالم العربي كلّه طينة هذا الكاتب المشهور. فقد نهى د. زكريا كل الفئات الناصرية والقومية واليسارية عن الخطأ الجسيم الذي يرتكبونه حين يستعينون لدعم مواقفهم السياسية بشخص مثل هيكل، لأنه لا فائدة تُرجى من التحالف مع شخصيات اعتادت التقلب مع عهود الحكم. فهيكل الذي بزغ نجمه لارتباطه الوثيق بعبدالناصر، لم يبقَ مخلصاً لناصريته، بل إنه لم يكن يطيق أن يبقى بعيداً عن المكان الذي ينشده لنفسه في المشهد السياسي، فانخرط كلية في المشروع الساداتي وكان جزءاً لا يتجزأ منه بحيث كان هيكل يساهم بدور أساس في إرساء دعائم الاتجاهات والمواقف التي تُعاب على السادات. كل هذا دعا زكريا للقول إن انقلاب هيكل على السادات لا علاقة له بالمواقف الوطنية، بل كان انتقاماً شخصياً يلبس ثياب الوطنية، وأنه استخدم معلوماته السرية لفضح ممارسات السادات، برغم أنه كان مشاركاً في تلك الممارسات. إلا أن د. زكريا تعامل بحسن ظن مع قصص هيكل التي اعتدنا عليها، مثل قصة اتصال الأمريكيين به وطلبهم منه أن يقوم بدور الوساطة لإنهاء أزمة الرهائن المحتجزين في السفارة الأمريكيين في بداية الثورة الإيرانية! التشخيص الأقرب لشخصية هيكل جاء في ثنايا (تفكيك هيكل) للكاتب العراقي سيّار الجميل، حيث كانت فيه إشارات لهذه الكذبات الكبيرة التي يطلقها هيكل بين حين وآخر، مثل تلك الكذبة عن استدعاء ملك المغرب السابق الملك الحسن الثاني له وتصريحه لهيكل بأسرار «مضنون بها على غير أهلها»، ويبدو أن أسلوب الكذب على الملوك الميتين قد أعجب هيكل، فكرر نفس قصة ملك المغرب مع الحسين بن طلال ملك الأردن، حيث ادعى هيكل أنه استدعاه بدوره في أيامه الأخيرة. لو جربنا طريقة الفلاسفة المثاليين للحظة، وتعامينا عن المظاهر، لوجدنا أننا أمام حكواتي على طريقة كتاب (ألف ليلة وليلة) وشهرزاد التي بقيت تحكي للملك شهريار قصة من نسج خيالها في كل ليلة لكي يطول عمرها فلا يقتلها الملك، الفرق بينهما أنه لا أحد يرغب في قتل هيكل، خصوصاً أنه قد وصل إلى أرذل العمر، لكنه هو لا يريد أن يموت مهنياً وإعلامياً، ولا يريد لهذه المكانة التي عاشها يوماً ما في زمن عبدالناصر أن تنحط. بينما الحقيقة المرّة التي يتغافل عنها هيكل هي أنه لا يوجد ولن يوجد من يضعه في تلك المنزلة، بما في ذلك حكام إيران الحاليين، الذين يقوم هيكل بالتطبيل والرقص لهم في هذه الأيام. رقص وتطبيل بثمنه وليس بالمجان، رقص تحوّل فيه الاشتراكي القديم لرجلٍ يملك المليارات كأي «برجوازي» ممن كان يكرههم، رقص تحوّل فيه العربي العتيد إلى مصطف مع الإيرانيين ضد بني جلدته.