زمن العجائب، يمسي المثقف الأجير محافظاً، ويصبح علمانيَّاً مبتذلاً رخيصاً تتقاذفه المخططات وتتلاعب به المؤامرات وتتقلبه الأهواء، يبيع المثقف فِكره وعقله بَعَرضٍ من الدنيا رخيص.. هذه العقول الرخيصة لا تعترف بالمبادئ، وسوقها في زمن الفتن رائج، وقد اكتظت بهم صفحات الإعلام وزاحموا بنشازهم إعلام الأقلام. قبل عشر سنوات، تزيد أو تقل كان المثقف هو ابن الكتاب وتلميذ المجلد ويدرس في مدرسة التخصص، وجل اهتمامه في مجالٍ واحد، واعتقاده مبني على الكتاب والسنة ومجالس العلماء ومدارسة الفضلاء، فكان جيلاً يحرص على أن يستفيد قبل أن يُفيد، وكان جيلاً يضرب للكلمة قبل أن ينسبها لنفسه ألف حساب، ويعرضها على ما رسخ في عقله من ثوابت ومسلمات، كان قد غذى بها عقله حتى ثبت ثبوت الجبال فأصبحت عقولهم موازين عادلة توضع على أكفتها الأفكار والطوارئ والمحدثات، فتمحصها تمحيص العارفين، وتنقدها نقد المخلصين، تلك العقول تُأثر قبل أن تتأثر.. فتأثيرها يخدم ويثمر وينفع، ولا تتأثر عقولهم بالهزيل من الأفكار، فضلاً عن أن يكونوا لها تُبّع. أما وإني بُصرت عن كثب بجيل حاضر من كُتاب الصحافة فوجدتهم -إلا ما رحم ربي- تلاميذ للمنطق وضحاياً للفلسفة وتُباعاً للمُصنَفين، وكانوا صيداً سهلاً لأهواء المرجفينً، يستعملون عقولهم تارة لملء بطونهم وتارة لخدمة أسيادهم وتارة لخدمة أعدائنا وكثيراً ما هم. إن تثبيت الثقافة بأساس ديني قوي، مطلبٌ مهم، يتأهل المثقف بهذا الأساس المتين إلى عالم متلاطم من الثقافات والأفكار والمعتقدات التي قد تجعل المرء على جرفٍ فكريٍ هارٍ، نتيجة لهذه المتغيرات التي لا ينجو من تأثيرها إلا مَن أسس بنيان فِكره على هدى من ربه أولاً، ثم بالوقوف عند المبادئ ثانياً، والحذر من المتربصين المستأجِرين للعقول عموماً. إن تسليم العقل للأهواء ضياع، وإعماله في غير المجال شتات، ولهذا تجد بعض المثقفين البُلهاء له في كل بحرٍ شُرَّاع، يُبحر على غير هدى، ويجادل على غير بصيرة، فيأتي بالموبقات الساحقات الماحقات، الصحف تشتكي والمنتديات تحتضر؛ لأن هؤلاء لم يلتزموا حدودهم وخاضوا في غير تخصصاتهم أو أسلموا عقولهم وأفكارهم لمن يستعملهم ويتلاعب بهم. ختاماً.. عقل المثقف الأجير كهاتف العملة، مَن يدفع فيه أكثر يستنطقه أكثر، والمثقف الرزين كالبستان الكبير، في كل وقتٍ يؤتي أُكُله {فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا ما يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض}.