الخطاب الديني مفهوم واسع، يشمل مصاديق عديدة، تحول دون تحديد دقيق لمفرداته، فالخطابات التي تتخذ من الرؤية الدينية لها مرجعية، تتفاوت في منظوراتها ومنطلقاتها الفكرية، ولا يمكن، والحال كذلك، جمعها كلها في سلة واحدة، ولعلنا نستطيع أن نحدد الخطابات المعاصرة في مجموعة من الاتجاهات وفقاً للاعتبار الزمني: التيار الإحيائي والسلفي في مقابل التيار الحداثي، وتيار القطيعة، ورفض الذات التراثية، والإقبال على الحداثة بوصفها مغايرة كلية للذات المتمثلة للتراث. هذا التمييز أولي هو أيضاً، حيث لا يكشف تماماً عن آلية اشتغال الخطاب الديني، والاختلافات الداخلية بين تياراته، وينبغي أن أقوم بعملية تفكيك للمفهوم ذاته، فماذا نعني بالخطاب الديني؟ الخطاب أولاً وقبل كل شيء هو «ما وراء النص» كما يقول المفكر الراحل نصر حامد أبو زيد، أو هو بتعبير آخر: المخرجات الناجزة، التي تمثل مركزية، أو سلطة معرفية بالمعنى «الفيكوي»، وهذا الخطاب ثانياً يتسم بمرجعية دينية، فهو ديني، أي أنه يُتخذ من مرجعية «وحيانية»، أو ذاتية السلطة المعرفية، التي تحدد آلية اشتغاله، ومن ثم تمنحه الشرعية. يمكننا وفق هذا التصور أن نحدد الإسلام السياسي، الذي أثار ولايزال يثير زوبعة من الإشكالات، والجدل الفكري، الذي ينعكس أحياناً في الواقع الخارجي على صورة صراع مع التمظهرات السياسية المتصفة بسلوك مزدوج في تعاطيها مع الرؤية الدينية. الإسلام السياسي هو نتيجة لمرحلة بينية كما يقول المفكر الإيراني داريوش شايغان، لأن الإسلام السياسي ليس امتداداً طبيعياً للإسلام التراثي بقدر ما هو ردة فعل على إخفاق، وفشل الاتجاهات والخطابات العلمانية، أضف إلى ذلك إشكالية الشرعية للفكر، أو الخطاب الذي يبنى على مرجعية متولِّدة عن الآخر الذي هو هنا الغرب، والغرب الذي يصدِّر الحداثة ليس بريئاً بالقدر الذي يحول دون تورطه في سلوك استعماري، يؤكد آخريته، ولهذا يمكننا القول إن الخطاب الديني كان يشكِّل الجانب النرجسي، الذي يحول دون تلاشي الذات، وذوبانها ليؤدي دور الضمانة، التي تحول في ذات الوقت دون استيعاب ومماشاة اللحظة التاريخية. جملة من المقولات، التي تولدت في سياق مغاير كلياً عن السياق الديني، هي التي شكَّلت تحدياً إشكالياً كبيراً للخطاب الديني، فليس من شك في جاذبية مفاهيم مثل: الحرية، والمواطن، والإنسان وحقوقه، والتسامح، وغيرها، هذه المفاهيم تتسم بهيمنة معرفية، وسلطة قيمية وأخلاقية لا يمكن أن يتجاهلها الخطاب، فلذلك يلجأ إما إلى استنطاق تعسفي، أو استكراه تأويلي للنص، أو الدعوة إلى ممارسة إحيائية بهدف إعادة إنتاج معاصرة للتجارب «الأنسنية»، والتأويلية المتجاوزة في التراث، أو الدعوة إلى إعادة الاعتبار للمدونات المحمَّلة ببعد إنساني وحقوقي كبيرين. أتصور أن الإسلام السياسي يمرُّ بتحديات كبيرة، خاصة بعد تراجعه في تركيا، وقبل ذلك في مصر، حيث التجربة لم تكن مُرضية، كما في تونس أيضاً. التجربة، والممارسة إذن ليست مشجعة، هذا إذا لم نقل إنها أعادت تكريس ذات الظروف، والعوامل التي زعمت تجاوزها. أجل يمكن لهذا الاتجاه أن يحظى بشرعية الوجود فقط حين يتعايش مع الآخر، ويقبل به، أي أن تجاوز النزوع الاستئصالي شرط أساسي لفاعليته، ومساهمته بوصفه اتجاهاً بين الاتجاهات الفكرية، وهذا أمر يمثل تحدياً كبيراً نظراً لمركزية فكرة الحقيقة المطلقة في كل الخطابات والاتجاهات الدينية، أما إذا كان المقصود مجرد تفكير، أو رؤية دينية فردية، فالأمر مختلف تماماً لأن الدين بوصفه ظاهرة اجتماعية، هو الذي يشكِّل جوهر الإشكالية. مشكلة الخطاب الديني أنه امتداد لثقافات أرثوذكسية مرتكزة على أساس القدرة على امتلاك الحقيقة الثابتة، والمطلقة، والعابرة للتاريخ، هذه مقولة كانت سائدة في القرون الوسطى، لكنها الآن تلاشت، أو بدأت تتلاشى، والخطاب الديني كأي خطاب أيديولوجي شمولي، يحاول تأسيس ذاته على رؤية «يوتوبية» أخلاقية، فالزعم بامتلاك الخير، والصدق، والحقيقة هو معضلة كل الخطابات الأيديولوجية الشمولية، التي تعاني من انشطار كبير بين حجم الادعاءات والمثل الطوباوية، وبين الواقع وسيولته وهلاميته. وهذا هو الأمر الذي يُنتج نسخاً متشابهة من التطرف، الذي يتقنَّع أحياناً بغطاء ديني، وأحياناً أخرى ب «أردية علمانوية».