بالأمس القريب كان عدد الجامعات في بلادنا المباركة لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة. واليوم قفز التعليم العالي قفزة كمية ونوعية على حد سواء. فوصل عدد جامعاتنا اليوم إلى قرابة 30 جامعة، وهذا دليل واضح على اهتمام المسؤولين في بلادنا المباركة وعلى رأسهم مولاي وسيدي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز- حفظه الله ورعاه-. وإني هنا في هذا المقال المتواضع شكلاً ومضموناً لست بصدد الحديث عن الكم في هذه الجامعات بل بصدد الحديث عن الكيف، ونقدي هنا لا يتجاوز قول القائل العربي (لن تعدم الحسناء ذماً) أو قول الشاعر العربي شخص الناس لجمالك فاستعذت عن شرهم بعيب واحد إذاً فإن مخرجات التعليم العالي قد تتماس مع حاجة سوق العمل وما يتطلع إليه من مخرجات، تكون سنداً لتحقيق أهداف التنمية المتوازنة في بلادنا التي يتطلع إليها القطاعان العام والخاص، وهما كفرسي رهان. ولكن أحياناً إن مخرجات التعليم العالي اليوم قد لا تلبي حاجة سوق العمل ولا تتماس مع أهدافه بصورة مباشرة، بل دعوني أذهب أكثر من ذلك فأقول بل إنها لا تساير مبتغى السوق العالمي، لو قدر لهذه المخرجات أن تعمل خارج نطاق الوطن. إن مخرجات التعليم العالي تخوض غمار معلومة مجردة لا مكان لها في سوق العمل المحلي والعالمي. إذاً إن الانشغال والإيغال في كمية دراسة المعلومات التي هي بعيدة كل البعد عن أرض الواقع مربك لخطط التنمية. إذ إنه يوجد تصارع بين معلومة جوفاء لا معنى لها وبين معلومة الواقع يحتاجها. إني حينما أتصفح مقرراً دراسياً في التعليم العالي في الدول المتقدمة فإني لا أرى فيه سوى تلك المعلومة التي لها معنى في أرض الواقع ليس إلا، وهذا عكس ما نراه في دولنا نحن دول العالم العربي، إذاً إن تزاحم المعلومات والمعارف التي الإنسان في غنى عنها نراها تزاحم تلك المعلومات والمعارف التي لابد للإنسان أن يدركها في ميدان العمل! وبهذا التصارع يتخرج الطالب في الجامعة ولا يدرك شيئا البتة من تلك المعارف التي لها مكان في أرض الواقع. ودعوني أعرفكم بالحقيقة التالية وهي أننا لا نلمس فرقاً بين شخص خاض غمار التعليم العالي وبين شخص لم يخضه، وهذا أمر نلمسه لا مرية فيه. كما أن التخصصات في جامعاتنا هي تخصصات نظرية صرفة، ودعوني أميط اللثام عن هذه النقطة، وهو أنه يوجد هناك فرق كبير بين الترف في المعلومة وبين معلومة لها محل في الواقع الحياتي، والسبب في ذلك يعود إلى أن مقررات التعليم العالي عندنا توغل بل وتسرف بالمعلومات التي لا طائل من وجودها. إن مخرجات التعليم العالي تُفاجأ حينما تنزل إلى سوق العمل، وإذا بها خالية الوفاض من تلك المدارك التي هي بأمس الحاجة إليها في ميدان العمل. إن مخرجات التعليم العالي تقبع في زاوية وحاجة السوق تقبع في زاوية أخرى! وهذا التباين ليس مسؤولا عنه التعليم العالي فقط بل المسؤولية مسؤولية جماعية بين قطاعات أخرى. ما أريد قوله هو أنه لا يوجد تماس واضح بين مخرجات التعليم والجهات الأخرى. كما أن مخرجات التعليم العالي لم تلبس لباس السوق ولم يكن هناك بين الواقع وبين كرسي الجامعة هوى، وقبل أن أستفيض بشرح هذه العبارة المجازية هو أن مخرجات التعليم العالي لا تملك مزاجا تتكيف به مع السوق والواقع المادي، إنما هي مخرجات بعيدة عن محاكاة وهوى سوق العمل. إننا نريد مخرجات تجيد مسك المعول لا مسك القلم. إن بعض الناس يقول إننا نعاني اليوم من أزمة مخرجات كبيرة هي فوق حاجة السوق كلا إنما نحن نعاني اليوم من أزمة مخرجات لا تملك المعرفة لتخوض غمار الحياة. إذاً نحن اليوم نعاني أزمة كيف لا أزمة كم في مخرجات التعليم العالي. ودعوني أصارحكم القول إذا كانت الشهادة الجامعية هي بالأمس غاية فإنها اليوم وسيلة لغاية، فأصبحت الشهادة الجامعية اليوم وسيلة لإدراك تلك المعارف التي لها في أرض الميدان واقع. وحتى أبين لك أيها القارئ الكريم أن التعليم العالي يكرس جهوده على حشو في المعلومات التي لا طائل تحتها، فإنك إذا ما امتدت يدك إلى مقرر دراسي على سبيل المثال لا الحصر مقرر الفيزياء فإنك تتوقع من الطالب أن يكون من طاقم رواد الفضاء عبر هذا المنهج، ولكنك لو سألته عن أبسط شيء في هذه المادة فإنك تُفاجأ بالحقيقة المرة التي تسفع هامتك وهو إنه لا يستطيع أن يجيب عنها! كل ذلك هو لتصارع معلومة جوفاء مع معلومة هادفة. وأخيراً إني في هذا المقال أرى أن استدرار الأفكار والمعاني كان عصياً علي فشرقت وغربت، ولكن دعوني ألخصه بالتالي إن مخرجات التعليم العالي لا تحاكي طلب سوق العمل، بسبب أن المقررات الجامعية هي مقررات تتسم بالحشو الذي فقدنا معه تلك المعلومات التي لا غنى عنها في أرض الواقع، إذا نحن نعاني اليوم من أزمة كيف لا أزمة كم في هذه المخرجات.