أثبتت الأحداث التي جرت في المنطقة الشرقية خلال الأسبوعين الماضيين من عمليات إرهابية ضد المصلين في القطيف والدمام، التي أسفر عنها استشهاد 26 مصليا، وقبلهم ثمانية شهداء في الدالوة، أن هناك تلاحما شعبيا متميزا بين المواطنين من مختلف المناطق. ويشهد على ذلك كثرة الوفود التي قدمت للمشاركة في تشييع الشهداء، وفي عزاء أهاليهم وذويهم، وكذلك البيانات والتصريحات التي صدرت من مختلف الجهات والشخصيات، التي عبرت من خلالها على ضرورة تعزيز اللحمة الوطنية ومواجهة القوى التكفيرية والجماعات الظلامية التي تهدف إلى الفتك بالمجتمع وتمزيقه. وما عزز هذا التلاحم هو ما رأيناه من تعاون فاعل بين منسوبي مختلف الأجهزة الأمنية والشباب المتطوع في مختلف المدن، من ناحية تنسيق العمل الميداني والمساهمة في تأمين سلامة المصلين والمعزين. كل المواطنين الغيورين تحدثوا بلغة واحدة نبذوا فيها الإرهاب والتطرف والتكفير، وشددوا على العمل المشترك من قبل الجميع لتجاوز الخطر القائم بمزيد من الوعي والمشاركة الفاعلة في محاصرة الفكر الداعشي المتطرف والبيئة الحاضنة والمولدة له، التي تستخدم مختلف السبل مثل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي والمنابر لإثارة الفتنة وتغذية الحالة الطائفية. المجتمع الشيعي بكل فئاته عبر عن تماسك داخلي متميز، وبعث برسائل واضحة للجماعات الإرهابية ولداعميهم عبر الحضور الكثيف في مراسم التشييع ورفع شعارات وطنية موحدة. ومن أبرز الرسائل ما تضمنه البيان الذي نشره أعيان وعائلات شهداء القديح، الذي أكدوا فيه على أنهم لا يطلبون أحدا بثأر أو انتقام، ورفضهم أي راية تستغل أسماء الشهداء في إثارة البلبلة والفتنة، وهو بيان إنساني ووطني بامتياز، جدير بأن ينشر مرارا في مختلف وسائل الإعلام. الشعارات التي رددها المشيعون في الأحداث الثلاثة شملت نداءات وحدوية مثل «إخوان سنة وشيعة، هذا الوطن ما نبيعه»، «لن يهزمنا الإرهاب، ولن تفرقنا الطائفية». كما أن جهود الشباب في مجال الإنتاج الفني من ملصقات وكراسات ونشرات ومقاطع تصويرية عبرت عن رسائل وحدوية متعددة. كما أن المواقف الإنسانية المدهشة التي برزت في تضحيات شهداء مسجد الإمام الحسين (ع) في حي العنود بالدمام، وتعاطي أهاليهم من عائلات الأربش والبوعيسى والهاشم كانت لافتة للغاية، من ناحية الوعي بالحدث والاستعداد للتضحية والصبر على المصيبة، بل وتحويلها لمناسبة تجديد للعطاء والوحدة. هذه المواقف البطولية التي تعبر عن وعي ونضج في المجتمع، وعن تعاط عقلاني ووطني مع الحدث، ينبغي أن توظف بصورة تصب في تعزيز التوجهات الوحدوية في الوطن، وتبديد الصور التي يقوم ببثها بعض المغرضين، مسيئين بذلك للوطن ككل وليس لفئة دون أخرى. تكررت خلال مراسم التشييع والعزاء مطالبات واضحة من قبل الجميع بتجفيف منابع التطرف والإرهاب، من خلال القيام بمراجعة شاملة للأوضاع وتوعية أفراد المجتمع بذلك، وعبر تشكيل رؤية وحدوية وطنية متكاملة تأخذ بعين الاعتبار التهديدات القائمة وسبل معالجتها، وتناغم مختلف وسائل التربية والتوجيه والإعلام في تحقيقها. وسعيا لردم الهوة المتنامية التي يستغلها أعداء الوطن، فقد طالب عديد من الشخصيات الوطنية بإقرار قانون الوحدة الوطنية وتجريم الكراهية والطائفية، والعمل على تنفيذه سريعا – كما حصل بالنسبة لقانون مكافحة الإرهاب الذي تم إقراره بصورة سريعة وعاجلة. لعل هذه الأحداث تقودنا لنقلة جديدة في نظرتنا للواقع الذي نعيشه وقراءة التحديات التي تواجهنا جميعا بشكل موضوعي وشفاف، وتطلق العنان لمسيرة متجددة برؤية واعية مستثمرة حالة التماسك والوحدة والتضامن، التي بدت واضحة في هذه الأحداث. ولئلا يكون هذا التفاعل والحماس وقتيا ومرتبطا بزمن الحدث، فإنه ينبغي العمل على إعادة هيكلة البنية المعرفية لأفراد المجتمع، لجعله أكثر قابلية للتعددية المذهبية والاختلاف البيني، والتخلص من عقدة الفوقية والعنصرية والتمايز الذي يشعر به اتجاه الآخر المختلف.