يبدو أن تاريخ الشعر مع الرمز قديم، قد يكون من لحظة التكوين الأولى، ويمكن بسهولة ملاحظة الأساطير القديمة وقد رصفت في الأبيات الشعرية منذ اليونان القدماء ومنذ العرب الجاهليين، فيشير كثير من نقاد العربية ابتداء من الجاحظ إلى عصرنا الحديث عن تلك العلاقة وانغماس الأساطير في حبر الشعرية، ولم تكن تلك ظاهرة محصورة على الشعر وإنما وجدت في بعض مقاطع النثر القديم منها والجديد. نشير هنا إلى أن الرمز لم يدخل الشعر عند الشاعر البحريني قاسم حداد فقط، وإنما تعداه إلى النثر أو ما شاكله أو ما كان بين بين، لعلنا نشير في هذا الصدد إلى ثيمة «الجبل» التي يسخرها قاسم حداد لتبيان مواقفه من خلف أستار الرمز الصامت الفاضح، يستعدي، العادي والمستتر، فنجده يستخدم هذا الرمز على المستوى الشعري في قصيدة. «ظلام عليك أيها الجبل» «نقول للجبل: غير غيومك هيئ ضريحك وافتح ألوانك على الناس نقول له: ظلام عليك أيها الجبل ولك قوسنا الشاهق.. سرادق الأفق نقول له: سئمنا سيدا يسكت عن أحفاده ويطلق لأسلافه سطوة الندم جبل ينهر أحلامنا ويشي بنا في محفل الصيارفة يقودنا بإدلائه المذعورين ويعتذر عن أجمل أخطائنا أمام قناصل الدول ومبعوثي الجيوش نقول للجبل: الجبال ترحل أيضا». ماذا يشكل الجبل بالنسبة للإنسان العادي؟ لعل الجبل يشير إلى تلك الضخامة الهائلة التي تسيج وجوده كمعطف من الجلال، ولكن الجبل على ضخامته يبدو من البعد، كأنه يتابع مسيرنا، أو كأنه ينظر إلينا دائما، وقد ورد في الأساطير العربية أن العالم مستقر لأن جبل قاف يمد جذوره إلى الأراضين السبع ليمسك بها، تلك الأرض التي تقف على قرن ثور اسمه نوت والواقف بدوره على ظهر حوت في الماء، وبالتالي ندخل بالجبل إلى أسطورة الخلق الأولى، وما يمكن أن يتمدد في تلك الاتجاهات. ولعلنا حين النظر إلى النص السابق نتعرف من خلال الخطاب الموجه للجبل، باعتباره إنسانا من خلال إضفاء صفات الإنسان عليه، فالإنسان هو الوحيد الذي يستطيع تغيير أشيائه فيما لا يستطيع الجبل ذلك، فالجبل تغير غيومه الريح، ولكن الجبل يظل واقفا في أفق التأويل المفتوح، فهل الخطاب موجه لشخص ما يمكن أن يكون كالجبل؟ أو هو موجه لحركة سياسية ما يمكن أن تكون كالجبل؟ لكن النص يعطي بعض مفاتيحه، ليشير إلى الجبل وهو «سئمنا سيدا يسكت عن أحفاده» فالجبل هو سيد ما، والسيد هو كل ما له سطوة على حياة الناس، الفارس، القائد، شيخ العشيرة، وكل ما يمكن أن يقود الناس، لكنه يتوافق مع السيد من خلال قوله «ولك قوسنا الشاهق.. سرادق الأفق»، والكلام هنا يتوجه كأنه النصح بين بين، فحتى الجبال تزول. كما يعود إلى ذات الرمز وبذات الاستخدام، في كتابه «نقد الأمل مكابدات الشخص بعد ذلك» حين يقول على لسان أسطورة من مخطوطة قديمة: «فقالت له الريح: لا تقل لي أنك لم تكن تعرف كل هذا من قبل. فارتبك الجبل قليلا، ودمدم مثل شيخ يتقدم في السن فجأة، ثم قال: ليس تماما.. ليس تماما، لكنهم كانوا يعبثون بي ولا يحترمون هيبتي.. فيهم، فقالت الريح: لم يكن ذلك عبثا، لقد كانوا يبعثون برسائلهم إليك فلا يلقون غير بطشك، ماذا تنتظر من بشر يفقدون الأمل». ثم يعود إلى ذات القيمة ولكنه يعالجها بشكل مختلف في «بورتريه للجبل الأخضر» حيث يقول: «وعندما تقدم بي العمر رأيت في الجبل الأخضر حلما يستجيب لشهوة الشعر في تغيير العالم بدأ من هناك. و«هناك» ليس مكانا، لكنه فصل من الزمن الذي يتصل بانطلاقة رفقة المستقبل الذين يعيدون إنتاج أحلام الماضي. فيما بعد، عندما تأملت المفارقة الشعرية بين الجبل وبين الخضرة، بالغت في الثقة بقدرة الأخضر على أن يزخرف الجبل ويغلبه ويغويه، وبأن الأحلام فقط تقدر على استنبات العشب في الصخور وإحيائها. لقد رأيت في تسمية «الأخضر» ضرباً من الشعر، يليق بسيد شاهق مثله. وبالمقارنة مع جبل آخر «كان يصاعد دخانا ولا يعقد غيما» حسب شاعر صديق في أوائل السبعينات، لا يحنو ولا يكترث بمن حوله، فإن شوقا حميما جعلني أرى في الجبل الأخضر تاريخا شخصيا لتجربتي. فللحجر أحيانا أن يكون أكثر رحمة من البشر». ها نحن نوغل في السرد وسرد السرد حتى يتساءلوا عن المعنى ومعنى معناه، وما يجب وما لا يجب، في النقد الذي قلنا سنلج به الشعر، لكن هل هناك أسطورة تفك أغلالها الملتصقة بالشعر؟ وهل الرمزية إلا لغة للشعر! هل هي شعرية السرد في مقال الشعر؟ ربما وربما أشياء أخرى، الجبل الآخر الذي يظهر هنا هو جبل الدخان، وهو مرتفع يقع في وسط الجزيرة الأم من هذا الأرخبيل الطيب وموطن الشاعر، إنه يبدو للبحارة من البعيد كأنه يصعد دخانا لوجود غمامة من الغبار تحيط به دائما، لربما كان ذلك هو السبب الذي جعلهم يسمونه بجبل الدخان، وهو لا يكاد يرتفع إلى حدود ثمانمائة متر، فهل هو الجبل الذي تحول دخانه إلى غيوم؟