لا يخلو أي مجتمعٍ من الأخطاء والسلبيات، فلا وجود للمدينة الفاضلة سوى في أوهام الفلاسفة وأحلام السذج وكتب الأساطير، حتى في المجتمعات «النبوية»، وُجد العصاة والمجرمون والمنحرفون، وستبقى سنة الله في الكون أن يتدافع الخير والشر، وأن يتقلب البشر بين الضلال والهدى، والفساد والصلاح، والمعصية والطاعة، بل إن الله عز وجل وضع لنا الأمثال والعبر في ضلال أقرب الأقربين للأنبياء والرسل عليهم السلام؛ لنعلم يقيناً أنّ لكل مجتمعٍ شوائب وتشوهات، تبعاً لمشيئة الله ثم لتنوع الأفكار واختلاف الاختيارات..! أزمة المجتمع تكمن في طريقة التعاطي مع ظواهره الطبيعية، ومكوناته المتباينة؛ حيث يقع بين «فكي كماشة»، يتجاذبه طرفا نقيض، بين المثالية والوصم، وكلاهما متطرف، فبينما ينظر «المثاليون» للمجتمع نظرةً «أفلاطونية» مثالية، تنزع للمُثل والكمال والمبادئ المطلقة، وتتغافل عن الواقع وتناقضات البشر..! وفي هذا تطرفُ وجهل؛ فمن السذاجة والوهم، أن يُنظر للبشر كملائكةٍ منزهين عن الخطأ والزلل، ولن يقدم المثاليون للمجتمع سوى الزيف والأوهام، فيخدعون أنفسهم ومجتمعهم؛ الذي سيغرق حتماً في أوحال مشكلاته وانحرافاته، التي تنمو وتتعاظم تحت شعارات النقاء الزائفة، والخصوصية الوهمية، إلى حد الانفجار، وسيبقى أولئك الواهمون المنظِّرون منفصلين عن الواقع، حتى وإن شارف المجتمع على الانهيار..! أما «الواصمون» فهم في أقصى الجهة المقابلة لتطرف المثاليين؛ حيث لا يرون في مجتمعهم إلا مساوئه وأخطاءه، التي يهولونها وينزعونها من سياقاتها الطبيعية، فيمارسون «شهوة الوصم» التي تميل إلى إصدار أحكام قِيَمية مطلقة دون تدقيقٍ أو تمحيص، قد تطال أفرادًا وفئاتٍ ومجتمعات، فيعممون الأخطاء الفردية، ويطلقون الأحكام الجائرة، بعيداً عن العدل والموضوعية..! يصبغ الواصمون كامل المجتمع بالسواد، ويتهمونه بالفساد، ويصفونه بأقذع الأوصاف، لمجرد انحراف بعض أفراده، أو وجود بعض السلوكيات الخاطئة والظواهر السيئة -حتمية الوجود-في أي مجتمعٍ بشري، ويتسمون بالظلم والاستبداد، ويجنحون لازدراء الناس واحتقارهم، ويسارعون للتشنيع والتشويه، ويعشقون ثقافة التشفي والعار، وتحويل البشر إلى شياطين..! والمؤلم في الأمر؛ أنّ الوصم لن يقدم للمجتمع سوى مزيد من الدمار والإحباط؛ حيث يؤثر على السلوك الإنساني سلباً، ويحرض على التمادي في الأخطاء، وتزداد بسببه الظواهر السيئة تفاقماً، استسلاماً وتكيفاً، أو تحدياً وانتقاماً..! ختاماً؛ بسبب المثالية والوصم، تضيع المجتمعات بين التهوين والتهويل..!