إن الإسلام يُعد المنبع الرئيس لكل النظريات التي تهدف إلى حفظ حقوق وحريات الإنسان وصيانة كرامته بما هو إنسان، وإن كان مجرماً، لذلك اهتم الفقه الإسلامي بالسجن والسجين، غير أن هذا الاهتمام لم يأت دفعة واحدة، ونلاحظ أن لفظة السجن كمؤسسة عقابية وكعقوبة قد وردت في القرآن الكريم في سورة يوسف في ثمانية مواضع، والسجن كعقوبة وإن عرف في زمن الرسول الأكرم محمد بن عبدالله (صلى الله عليه وآله وسلم) غير أنه لم يكن هناك مكان يُحبس فيه الشخص المجرم، فكان الحبس يتم إما في ساحة المسجد النبوي أو في الدهاليز أو في البيوت، ومنها بيت المضرور، وظل عدم وجود مكان معيَّن مخصص يحبس فيه الأشخاص – على حد قول البعض – حتى عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي يروى أنه اشترى من صفوان بن أمية داراً بأربعة آلاف درهم وجعلها حبساً أي سجناً لتنفيذ العقوبات التعزيرية. وحينما تولى الإمام علي رضي الله عنه الخلافة اهتم بالسجن فبنى سجناً في الكوفة سماه (نافعاً) إلا أن اللصوص نقبوه وهربوا منه، ثم بنى سجناً وسماه (مخيس) وقد تميز هذان السجنان بالنزعة الإصلاحية فالسجن الأول سماه (نافعاً) والنفع ضد الضرر، أما الثاني فسماه مخيس ومعناه السجن لأنه يُخيس المحبوسين بمعنى يذلهم هذا من ناحية الاسم، أما من ناحية المعاملة العقابية فقد عمد الإمام علي – كرم الله وجهه- إلى وضع قواعد خاصة في معاملة المسجونين ترمي إلى الحفاظ على كرامة الإنسان بما هو إنسان ومسلم. فنجد أن هناك عناية بالسجين من نواحي الجسد والروح والفكر، فكان الإمام علي يتابع طعامهم وشرابهم وكان يصرف لهم كسوة صيفية وأخرى شتوية وفي حال مرض أحد السجناء كان يُعالج داخل المؤسسة العقابية، وإن لم يكن له خادم يقوم بخدمته قوَّم له واحداً، وإن كان مرضه لا يُرجى شفاؤه أو خطراً على حياته فينقل إلى بيته لعلاجه، ومن ثم يُصدر قراراً بإعفائه عن مدة محكوميته، وكان يسمح للمسجونين بالخروج والمشي داخل المؤسسة العقابية، بل نجد أن الإمام قد أقّر للسجناء بحق الخروج لأداء صلاة الجمعة والعيدين، مع ذويهم وأهلهم وإعطائهم الحق بزيارتهم، ثم نجد أن الإمام قد أقرَّ تعليم السجناء القراءة والكتابة والأحكام الدينية والعقائدية والمواظبة على ممارستها، ثم أكد ضرورة معاملة السجناء (النزلاء) بالحسنى من قِبل القائمين على إدارة المؤسسة العقابية، وذلك كله يتم تحت إشرافه ورقابته، بل كان يوصي عماله في الأمصار الأخرى بذلك كله، هذا الفكر الإصلاحي أصبح نقطة الانطلاق فيما بعد للفكر الجنائي الإسلامي و"الإنساني" عموماً في الاهتمام بالسجن والسجين. وعلى ذلك يمكن القول إن الإمام علي بن أبي طالب هو أول من وضع قواعد الحد الأعلى وليس الأدنى لمعاملة المسجونين وتنظيم السجون باعتبارها مؤسسة إصلاحية تأهيلية علاجية، ولم يطبق الفكر الإصلاحي للسجن إلا في عهد الخليفة عمر بن عبدالعزيز، الذي أكد في كتبه إلى عماله ما جاء به أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. وعليه فإن الفكر الإنساني قد استفاد من تلك النظريات والممارسات التي كان رائدها صاحب الفكر الإنساني والقانوني العظيم الإمام علي بن أبي طالب، ولكن بعد مرور مئات السنين لم يتم الاهتمام بالسجون من ناحية البناء والمعاملة أي كمؤسسة إصلاحية علاجية وتأهيلية بصورة فعلية إلا بعد القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين.