دائماً ما يخطر هذا التساؤل على بالي، إذا ارتكب شخص ما جريمة هل تقع عليه الملامة بنسبة %100؟. أليس الإنسان نتاج المجتمع والتربية والمناهج والإعلام وألعاب الفيديو التي ربَّته على العنف مثلاً!؟ لنفترض أن شخصاً تعرَّض لاغتصاب، واستغلال جنسي، وسوء معاملة وإهمال من والديه في طفولته ما تسبَّب له بعقدة نفسية، وكبر فأصبح مجرماً، يختطف الأولاد الصغار، ويغتصبهم، ثم يقتلهم. مَنْ الملام هنا؟. هو ملام طبعاً، ولكن يشاركه في ذلك الأم، والأب، في إساءة معاملته، والمغتصب في اغتصابه، والجهات المسؤولة لأنها لم تسن قوانين لمراقبة المنازل، ومنع العنف الأسري، والمدرسة لأنها لم تتنبه إلى أن هذا الطفل يعاني، وتدخلت بنزعه من أسرته، وتحويله إلى طبيب نفسي، يعالجه من آثار ما تعرض إليه. المجرم هنا هو شخص بائس مسكين، بل ومسكين جداً، ولكن هل يُفترض أن ينجيه هذا من العقاب؟ طبعاً لا. في رأيي أننا يجب أن نعاقب المجرم ليس لننتقم منه، فهو مسكين يستحق الرحمة لا الانتقام، ولكن نعاقبه لنحافظ على الأمن، وعلى سير الحياة. لو أصبحت الدنيا فوضى، وكل واحد غير مسؤول عن تصرفاته، ستتوقف عجلة الحياة، وستخرب الأرض. لذلك حتى لو كان الشخص غير سويٍّ وغير مسؤول عن تصرفاته فإنه لا يزال يستحق العقاب، إلا إذا كان مجنوناً تماماً، لا يعي شيئاً، هنا يجب أن يُحبس في «مصحٍّ» ولو خرج منه، وارتكب جرماً، نعاقب مَنْ سمح له بالخروج. مسؤولية المجرم عن جريمته موضوع قديم، بحثه علماء الاجتماع والقانون، وعلماء الجينات، ونُشرت فيه عشرات من الأبحاث. في عام 1991 قام الشاب الأمريكي توني موبلي «عمره 25 سنة» بالدخول إلى محل «دومينوز بيتزا» وفي يده سلاح، قتل به عامل البيتزا، ورماه من رأسه فقط، ليسرق النقود التي في «الكاشير»! قام بعدها بسرقة عديد من المحلات حتى تم القبض عليه. قصة موبلي مهمة في القضاء الأمريكي فعلى الرغم من أنه اعترف شفهياً، وكتابياً بتفاصيل جريمته إلا أن الفصل في قضيته استغرق وقتاً طويلاً، ولم يُعدم إلا في عام 2005 بحقنة ليثال، وكان عمره وقتها 39 سنة. سبب تأخر البت في القضية هو أن محاميه ادعى بأنه على الرغم من ثبوت التهمة على موكله إلا أنه غير مسؤول عن تصرفاته لأنه خُلق بميل طبيعي للجريمة! موبلي لم يتعرض إلى عنف في طفولته، وأسرته كانت غنية، وكل شيء عنده كان متوفراً، ولكن طبيعته كانت إجرامية، وهذا شيء خارج عن إرادته. استند المحامي على أدلة من دراسة أجريت في هولندا، أثبتت أن ذكور عائلة هولندية محددة، يحملون تحوُّلاً جينياً تسبَّب في اختلال «كيميائية أدمغتهم» ما أدى إلى أنهم أصبحوا أكثر عنفاً. فهل يكون الإنسان مجرماً بالوراثة؟ وهل نستطيع أن نجري تشخيصاً مبكراً للمجرمين وهم أطفال رضع، ونتعامل معهم على هذا الأساس؟! أثبتت الدراسات أيضاً أن الطفل الذي يكون من عائلة تحمل تاريخاً في العنف يميل إلى العنف هو أيضاً عندما يكبر حتى لو أنه لم يحتك بأهله الأصليين، وعاش مع عائلة أخرى تبنته. من المهم أن يبحث علماء الاجتماع والجينات في هذا الموضوع لكي نُحسِّن حياة الناس، ولاكتشاف ومعالجة بعض مكامن الخلل. ولكن نتاج هذه الدراسات يجب أن لا يؤدي إلى إطلاق أحكام عنصرية، أو يُستغل من قِبل المجرم لتبرير جريمته. نفس الكلام من الممكن أن نطبِّقه على قضية «قاضي الجني»، التي ظهرت العام الماضي في المدينةالمنورة، حينما ادعى قاضٍ أنه «ملبوس بجني» وغير مسؤول عن سرقاته المقدرة ب 600 مليون ريال. استمرت القضية في المحاكم أكثر من سنة، وانتهت بإدانته هو وشركاؤه في الجريمة وعددهم 36 شخصاً. هذه القضية مفيدة في تطور القضاء السعودي، وينبغي أن تُدرَّس في كليات الحقوق، وهي مهمة كقضية موبلي في القضاء الأمريكي.