لن تعود فرنسا إلى سابق عهدها أبداً بعد الهجمات التي شنها متشددون الأسبوع الماضي.. هذا ما خَلُصَ إليه رئيس الوزراء، مانويل فالس، بعد ساعاتٍ قليلة من وقوع الأحداث الدامية، لكن «ماذا بعد؟» كان السؤال الذي طرحته إحدى اللافتات في مسيرة تأبين الضحايا يوم الأحد الماضي. وفي تعبيرٍ عن التضامن والمشاعر الجياشة التي لم تشهدها باريس منذ تحريرها من ألمانيا النازية عام 1944؛ تدفَّق 1.5 مليون فرنسي على شوارع العاصمة لتأبين 17 شخصاً قُتِلوا في 3 هجمات استهدفت صحيفة «شارلي إيبدو» ومتجراً للأطعمة اليهودية ودورية شرطة. وكانت عبارة تعكس الكبرياء ك «فخور بكوني فرنسياً» هي الأكثر شيوعاً في تغريدات لا حصر لها على موقع «تويتر» من قِبَل المنخرطين في مسيرات تضامُن شارك فيها 3.7 مليون نسمة على الأقل في أرجاء فرنسا. وكانت مسيرة الأحد أبرز هذه التحركات؛ إذ وصفها الرئيس الفرنسي، فرانسوا هولاند، بأنها «الوجه الأفضل» لبلاده. لكن تحين الآن المهمة الصعبة لتحويل هذا الزخم إلى عنصر قوة للتعامل مع المشكلات الأمنية والتشريعية والاجتماعية والاقتصادية التي تُطرَح كعوامل وراء خطر ما زال ماثلاً بشدة. وحذرت صحيفة «لا كروا» الفرنسية الكاثوليكية قائلةً «هذا الشعور بالوحدة هو بالقطع هش للغاية، لن يمر وقت طويل قبل أن تمحوه المشاحنات المعتادة والقسوة». وظهرت الشروخ بالفعل صباح الإثنين حين استمع الفرنسيون إلى الحوارات الإعلامية وهم يتناولون إفطارهم كالعادة. فرغم أن الحكومة الفرنسية حَرِصَت على عدم القفز إلى استنتاجات بشأن الأصول الجزائرية للشقيقين شريف وسعيد كواشي المنفذين الرئيسين لهجوم «شارلي إيبدو» أو الأصول الإفريقية لأميدي كوليبالي منفذ الهجوم على متجر الأطعمة اليهودية، يرى منتقدو الحكومة أن تلك الأصول مرتبطة بما يعتبرونه نقاشاً تأخر كثيراً عن الهجرة. الهجرة والاندماج في هذا السياق، قال الرئيس الفرنسي السابق، نيكولا ساركوزي، الذي سار خلف هولاند في مسيرة الأحد بوصفه زعيما للمعارضة المحافظة «الهجرة غير مرتبطة بالإرهاب لكنها تعقِّد الأمور». واستطرد في حديث لراديو «آر.تي.إل»: «حين لا يتحقق الاندماج يخلق هذا مشكلة على أرضنا». لم يقدم ساركوزي حلولاً، لكن الموضوع يتداخل مع دعوته المهاجرين إلى الاندماج مع لغة فرنسا وثقافتها في إطار هدفه استعادة أصوات الناخبين اليمينيين قبل انتخابات الرئاسة المقبلة عام 2017. وتصبُّ مثل هذه التصريحات في سياق متفجِّر شهد هجمات على أهداف للمسلمين في الأيام التي أعقبت سقوط 12 قتيلاً في «شارلي إيبدو». تنامي العزلة وتؤمن حكومة هولاند بأن الفرص المتساوية هي مفتاح الوفاق بين الأعراق لكنها مثل حكومات سابقة عليها أن تتعامل مع شعور بالعزلة تنامى على مدى سنوات في المناطق المحيطة بالمدن الكبرى؛ حيث تعيش أعدادٌ كبيرة من المهاجرين. وأقر وزير الاقتصاد، إمانويل ماكرون، بذلك في حديثٍ للصحفيين أمس الأول قائلاً «هذه الجرائم المروعة ارتكبها شبان نشأوا في بلدنا التي لم تتمكن في أحيان من مساعدتهم على بناء مستقبلهم». العشوائيات والسجون لكن الحكومة الفرنسية تتعرض لضغوط من شركائها الأوروبيين لخفض الاقتراض العام، ومن غير المرجح أن تتمكن في أي وقت قريب من تمويل «خطة مارشال» الهائلة لإعمار العشوائيات التي وعدت حكومات سابقة بتنفيذها ولم تتمكن من الوفاء. كما يصعُب أيضاً التعامل مع الضعف الملحوظ في قوانين العقوبات والأجهزة الاستخباراتية التي وعد رئيس الوزراء أمس بالتعامل معها فوراً. وقال مانويل فالس للتليفزيون الفرنسي متحدثاً عن مخاطر التشدد داخل السجون «يجب أن نفعل شيئاً فيما يتعلق بالسجون، هذه أولوية». ويعاني عددٌ كبير من السجون الفرنسية من وجود نزلاء أكثر من الطاقة الاستيعابية مثل السجن الذي التقى فيه لأول مرة شريف كواشي مع كوليبالي. قانون المواطنة وبعد أحداث الأسبوع الماضي التي اعتبرها كثيرون «11/ 9 الفرنسي»؛ تصاعدت المطالب بسن «قانون للمواطنة» على غرار القانون الذي أصدرته الولاياتالمتحدة بعد هجمات 11 سبتمبر عام 2001، والهدف هو تعزيز الأمن بسلطات واسعة للمراقبة والاحتجاز. واستُبعِدَ هذا تماماً في فرنسا في الوقت الراهن، لكن رئيس الوزراء أقر بوجود قصور في مراقبة الجناة، وقال إن هناك حاجة إلى موارد أكبر ومراجعة للحدود القانونية. الدعم الأوروبي ورغم أن الزعماء الأوروبيين تصدَّروا مسيرة باريس الأحد؛ يبدو أن فرنسا تحتاج إلى دعم ملموس من شركائها الأوروبيين لتصعيد حربها على الإرهاب. في هذا الإطار، دعا وزير الداخلية، برنار كازنوف، إلى مزيدٍ من التعاون عبر الحدود، قائلاً إن ترتيبات الاتحاد الأوروبي لا تتناسب مع التعامل مع هذا التهديد. وطالب كازنوف بإنشاء قاعدة بيانات مشتركة بشأن ركاب الرحلات الجوية، وهو ما يرفضه البرلمان الأوروبي حالياً بسبب مخاوف من انتهاك الخصوصية. كما دعا كازنوف أوروبا إلى التصدي لاستغلال شبكة الإنترنت في تجنيد شبان للقيام بأعمال عنف والترويج لخطاب الكراهية. وقال «نحن بحاجة إلى العمل عن كثب مع شركات الإنترنت لضمان الإبلاغ عن أي محتوى يعد تبريراً للإرهاب أو دعوة إلى العنف والكراهية، وإزالته إن أمكن». الدور العسكري وخلال الأشهر القليلة المقبلة؛ قد يُسلَّط الضوء على ما إذا كانت فرنسا ستستمر في دورها العسكري في دول مثل العراق ومالي، وهي تدخلات أوردها رجل قيل إنه كوليبالي في تسجيل فيديو كدافع لشن هجومه. وفي افتتاحيةٍ لها؛ استخدمت صحيفة لو فيجارو عنوان «بعد العواطف تأتي الشجاعة»، وهي عبارة تلخص العبور الشامل إلى المستقبل الذي يتعيَّن على فرنسا وزعمائها الإقدام عليه بعد تجارب الأيام القليلة الماضية.