مر زمن طويل لم أشاهد فيه فيلماً أمريكياً بمثل هذا الجمال الآسر بعيداً عن «خزعبلات» السينما الأمريكية المعهودة، التي شبعنا منها حتى التخمة، من ثيمات معادة ومكررة يدور معظمها في فلك العنف والأبطال الخارقين والرعب المقزز والاعتماد المفرط على الخدع السينمائية والتقنيات البصرية التي فرضت هيمنتها في كثير من الأفلام حتى أصبح لها دور البطولة المطلقة، مع تضاؤل وتهميش الدور والموهبة البشريتين، إلا فيما ندر من أفلام. لست من المختصين في الكتابة عن السينما، ولست على اطلاع واسع ودراية بخبايا عوالمها المتشعبة، لذا أقدم اعترافاً بأنني لم أكن أعرف من قبل ليس فقط مخرج الفيلم، ألكسندر باين، بل كل الممثلين الذين مثلوا فيه بما في ذلك صاحب الدور الأساس والأكثر بروزاً بطبيعة الحال، بروس ديرن. الفيلم الذي أتحدث عنه هو فيلم (نبراسكا) الذي قادني حظي السعيد إلى مشاهدته مؤخراً. آثر المخرج المتحدر من نبراسكا أن يكون الفيلم باللونين الأبيض والأسود، رغم أن أحداثه تتم في وقتنا الراهن، ورغم عدم وضوح المغزى من ذلك أو الهدف من ورائه بوضوح إلا أنه أضفى طابعاً حميمياً خاصاً على الفيلم بشكل عام، وجعل انتباه المُشاهد أقل تشتتًا بما تحويه المَشاهد عادة من أطياف لونية متنوعة. تتمحور أحداث الفيلم حول شخصية الأب الطاعن في السن والمعدم، وودي جرانت (بروس ديرن) الذي يبدو شبه منفصل عن العالم المحيط به، والذي يصر على الذهاب إلى نبراسكا مشياً على الأقدام ليصرف شيكاً بمليون دولار حصل عليه من إحدى المجلات التي تقدم عروضاً وهمية لجذب مزيد من المشتركين. ورغم سخرية زوجته سليطة اللسان منه وتوبيخها الدائم له إلا أنه يبقى مصراً على تنفيذ ما عزم على تنفيذه مهما كانت العواقب. وذلك ما يدفع بابنه الأصغر، ديفيد (ويل فورت) للتعاطف معه والإشفاق عليه ليقرر اصطحابه في تلك الرحلة الطويلة المرهقة، التي لن تسفر إلا عن حصد الأوهام التي تعشش في ذهن الأب الذي أبدع ديرن أيما إبداع في تصوير وتقمص شخصيته. يعود الأب والابن إلى نبراسكا وتلحق بهما الأم والأبن الأكبر لاحقاً، ويقيمون في منزل شقيق العجوز الحالم بالثراء، لتنتشر بعد ذلك شائعة الفوز بالمليون دولار، وتطفو على السطح مطامع الطامعين الذين يدّعي كل واحد منهم أن الأب و»المليونير المنتظر» قد استدان منهم مالاً قبل سنوات طويلة. وبطبيعة الحال فإن الحقيقة «المرة» تتضح في نهاية المطاف، ويتخلى الأب أخيراً عن فكرة مطاردة سراب المليون الموعود. إذن، فإن حلم المليون يتبخر، ولكن هناك ما يكسبه الأب وأفراد عائلته وهو استعادتهم الذكريات القديمة واقترابهم وفهمهم أكثر بعضهم بعضاً، لتكون رحلة السعي وراء المليون رحلة استكشاف واستعادة لما تهدم واضمحل سواء من الماضي أو من العلاقات التي تربط فيما بينهم. العلاقة المميزة والأكثر بروزاً التي جمعت ما بين الأب والابن، و»بر» الابن بأبيه، ذكرتني بالعلاقة التي لا تُنسى ما بين الابن وأبيه أيضاً في الفيلم الإيراني الرائع (انفصال)، حيث الابن الذي يصر على الاعتناء بأبيه المصاب بمرض الزهايمر بنفسه، رغم أنه كان بوسعه الاستعانة بأحد ما ليقوم بذلك. وبحسب معرفتي وثقافتي السينمائية المتواضعة فإن هذه العلاقة نادراً ما صُورت بهذا القدر من الحميمية والبعد الإنساني العميق. حقق الفيلم نجاحاً نقدياً كبيراً فورعرضه لأول مرة في «مهرجان كان»، وكان مرشحاً للفوز بالسعفة الذهبية لأفضل فيلم، ولم يخرج خالي الوفاض، إذ فاز بروس ديرن بجائزة أفضل ممثل. كما أنه كان مرشحاً ل6 جوائز أوسكار. وقد حظي الفيلم بتقدير واحتفاء جماهيري كبير أيضاً حيث حقق ما نسبته 92% من التصويت الإيجابي في موقع «روتن توميتوز» المعروف والمتخصص في الأفلام السينمائية، وهي نسبة لا تحققها إلا قلة قليلة من الأفلام.