في المحاضرة الخامسة، (الجهر بالحق في وجه السلطة)، يشير سعيد إلى ارتباط المثقف الحتمي بحكومة ما أو مؤسسة أو شركة أو نقابة مهنية، ارتباطًا ربما أدى إلى إضعاف وتهميش الحس النقدي والأخلاقي لديه؛ فهو في نهاية الأمر لا يعول نفسه بنفسه بل إنه محتاج إلى غيره مهما تصور أنه حر ومستقل. كحل لهذه الإشكالية اقترح سعيد، كما رأينا، أن يكون المثقف هاويًا لا محترفًا رغم ما يتضمنه ذلك من خطورة ونتائج غير مؤكدة. لقد رفض سعيد نفسه العمل كمستشار مدفوع له في المحطات التلفزيونية أو الصحف، لأن ذلك يعني أن يكون حبيسًا لتلك المحطة أو تلك الصحيفة مقيدًا بلغتها ومفاهيمها السياسية. يطرح سعيد بعد ذلك مجموعة من الأسئلة الأساسية التي تشغل المثقف: كيف يقول المرء الحقيقة؟ وأي حقيقة؟ ولمن وأين؟ ليس هناك من نظام أو منهج بوسعه أن يقدم إجابات مباشرة لهذه الأسئلة. كما لا يمكن الركون إلى الوحي أو الإلهام لأننا نعيش في عالم تاريخي واجتماعي دنيوي، هو عبارة عن محصلة الجهد البشري عبر تاريخه الطويل. غير أن ما لا خلاف حوله هو أن على المثقف أن يبذل كل ما في وسعه في صراعه مع الأوصياء والقيمين على الرؤية المقدسة أو النص المقدس، دون أن يتخلى مطلقًا وتحت أي ظرف عن حرية الرأي والتعبير. إن على المثقف أن يكون شديد الحذر والانتباه في اتخاذ مواقفه وفي تكوين رؤاه، لأن عديدا من المفاهيم الأساسية تشهد تخلخلاً واضطرابًا في معناها أو في تطبيقاتها العملية. في كتابه «ذلك الحلم النبيل: سؤال الموضوعية وبروفيسور التاريخ الأمريكي» ينتهي بيتر نوفيك إلى أن جوهر البحث التاريخي الذي يفترض فيه سرد الحقائق بواقعية ودقة وموضوعية، قد تحول إلى «مستنقع» من الادعاءات والادعاءات المضادة، مما يدفعه إلى القول بأن الدراسة المنهجية الموضوعية للتاريخ لم يعد لها وجود. هذا النقد الصارم للموضوعية المزعومة، إضافة إلى مساءلة السلطة التي يؤكد عليها سعيد مرارًا وتكرارًا، يلعبان دورًا مهما في فهم كيفية تشكيل الناس لحقائقهم في العالم العلماني، وكيف أن هذه الحقائق تتصارع فيما بينها، مما ينتج عنه بالتالي الغياب الكلي للمبادئ أو القيم الكونية، حتى وإن زعم زاعم أن القيم التي يمثلها تتمتع بصفة الكونية أيا كانت تلك القيم. إن من أبرز المثالب التي يقع فيها المثقف، هو أن يعيب وينتقد بعض الممارسات الجائرة والخاطئة في مجتمع ما ثم يغض الطرف عن نفس هذه الممارسات حين تمارس من قبل المجتمع الذي ينتمي إليه. وكمثال على هذه الحالة يأتي سعيد على ذكر المثقف الفرنسي الذي عاش في القرن التاسع عشر أليكسيس دو توكفيل الذي انتقد المعاملة الأمريكية السيئة للهنود والسود، وحين تطرق للسياسات الاستعمارية الفرنسية في الجزائر صمت عن جميع الممارسات اللاإنسانية لجيش الاحتلال الفرنسي مع الشعب الجزائري، مبررا ذلك بأنهم، أي الجزائريين، ينتمون إلى دين أقل مكانة وأن من الواجب تأديبهم. وهناك مثال آخر يتمثل في جون ستيورات مل الذي كان يرى عدم إمكانية تطبيق الحريات الديمقراطية في الهند المستعمرة البريطانية حينئذ. هذان الموقفان بلا شك يعبران عن نمط التفكير السائد في ذلك الوقت والمرتبط بالمركزية الأوربية، التي كان يُنظر وفقها إلى الشعوب الآسيوية والإفريقية نظرة استعلاء وازدراء، باعتبارها شعوبًا متخلفة وغير مؤهلة لأن تحكم نفسها بنفسها. غير أن العالم تغير لحسن الحظ، وأصبحت العدالة والمساواة مطلبًا أساسيًا وحقًا مضمونًا للجميع على حد سواء بغض النظر عن جنسهم أو لونهم أو معتقدهم. وفي نهاية هذه المحاضرة يقول سعيد « إن الجهر بالحق في وجه السلطة ليس مثالية مفرطة في التفاؤل: إنه تأمل دقيق في الخيارات المتاحة، وانتقاء الخيار الصالح، ومن ثم تمثيله بذكاء أينما أمكن إعطاء النتيجة الفضلى وإحداث التغيير الصائب». اشتق سعيد عنوان محاضرته السادسة، (آلهة تفشل دائمًا)، من كتاب ريتشارد كروسمان «الإله الذي فشل» المطبوع سنة 1949، الذي جمع فيه شهادات عدة لأبرز المثقفين الأوروبيين الذين أعلنوا توبتهم وردتهم عن الماركسية والشيوعية السوفييتية، من أمثال إيجنازيو سيدلوني وأندريه جيد وآرثر كوستلر وستيفن سبندر. لقد تم توظيف واستغلال مثل تلك الشهادات والتجارب في الحرب الفكرية أو الثقافية الباردة التي كانت تدور رحاها بين القطبين الشيوعي والرأسمالي، الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدةالأمريكية. كان المثقفون مطالبين بأن يقوموا بدور ما في سبيل دحر الشيوعية الآخذة في التوسع وكسب الحلفاء والأتباع في كافة أرجاء الأرض. حتى وإن تم ذلك دون رغبة أو وعي منهم. يشير سعيد إلى الدعم السري، على سبيل المثال، من وكالة الاستخبارات المركزية لمنظمة حرية الثقافة، التي أسهمت في توزيع كتاب «الإله الذي فشل» على نطاق عالمي. كما قدمت الدعم المالي لمجلات مثل «إنكاونتر»، وسعت لاختراق النقابات العمالية والمنظمات الطلابية والكنائس والجامعات. إن ما يريد سعيد الوصول إليه هو أن على المثقف الحقيقي ألا يُسلم قياده للسلطة، وألا يسير وفق إملاءاتها وشروطها ومساراتها التي تحددها سلفًا، لأن «التبعية العمياء للسلطة في عالم اليوم هي أحد أفدح الأخطار التي تهدد كينونة حياة فكرية أخلاقية نشطة». والمثقف في نهاية المطاف يقف أمام خيارين لا ثالث لهما؛ فإما أن يمثل الحقيقة التي يؤمن بها قدر استطاعته، وإما أن يذعن ويستسلم للسلطة لتوجهه حيث تشاء.