هل هناك علاقة ما بين الجماهير والسير في ركاب هذه الجماهير من جهة، وبين وجع الأسنان من جهة ثانية؟ للوهلة الأولى يبدو ان الجواب المنطقي هو: لا، طالما ان المرء لا يعضّ الجماهير لكي تتسبب له في وجع الأسنان. ولكن بالنسبة الى روباخوف بطل رواية «ظلام عند الظهيرة» لآرثر كوستلر، هناك علاقة، حتى وإن كانت علاقة غامضة من الصعب إدراك ماهيتها او سماتها، ومن الصعب حتى الافتراض بأن لها دوراً حقيقياً في الرواية. اما الدليل الوحيد على وجودها، فهو ان روباخوف هذا، ومذ نتعرف إليه في اللحظات الأولى للرواية يعاني ألماً مرعباً في أسنانه، الى درجة انه حين يتم القبض عليه، لا يكاد يشكو امام حراسه وجلاديه من شيء باستثناء شكواه الدائمة من ذلك الألم الذي يعصف بالناب الأيمن العلوي المرتبط مباشرة بالعصب المداري. إنه ألم لا يوصف ويجعل بولاكوف قادراً على نسيان كل معاناة اخرى... الى درجة ان هذ الألم يذكر بعد ذلك ما لا يقل عن خمسة عشر مرة في الرواية، حتى وإن كان القارئ يميل الى نسيان وجوده حالما يكف صاحب العلاقة عن الشكوى منه ليستعيده ما إن يستعيده روباخوف! لكن الألم سيحدث له في نهاية الأمر ان يختفي، وهو يختفي من دون مقدمات، ومن دون اية معالجة، بمجرد ان يصرّح روباخوف عند نهاية محاكمته قائلاً: «إنني لأطوي ركبتي منحنياً امام وطني، وأمام الجماهير». حسناً، لكي لا ندخل القارئ هنا في متاهات وتخمينات قد يراها ذات لحظة خارجة عن منطق السرد في الرواية، وبخاصة إن لم يكن هذا القارئ من الملايين الذين قرأوا رواية آرثر كوستلر هذه، - والتي اشتهرت اكثر في أوروبا بعنوانها الفرنسي «الصفر واللانهاية» - سنذكر أنها رواية كتبها كوستلر بعد تخليه عن ماضيه كعضو في الحزب الشيوعي الهنغاري الذي انتمى إليه في العام 1931 وظل فيه ثمانية اعوام انتهت بتركه اياه. وكوستلر كتب الرواية تحديداً مع بدء معركته الطويلة ضد الشيوعية، مثله في هذا مثل المئات من المثقفين والمناضلين الشيوعيين الأوروبيين الذين هزتهم محاكمات موسكو الستالينية، وما آل إليه الحلم الاشتراكي الكبير على يدي ستالين. قبل ذلك بسنوات قليلة كانت تجربة كوستلر في النضال الى جانب الجمهوريين واليساريين، في إسبانيا ضد فاشيي فرانكو قد ألهمته كتابه الكبير الأول «وصية إسبانية»... ولكن منذ ذلك الكتاب كان كوستلر قد بدأ ينظر بشيء من الشك الى الممارسات الشيوعية الرسمية. ولكن مع نهاية الثلاثينات، وإذ كان العالم تغير كثيراً عشية الحرب العالمية الثانية، لم يعد في وسعه ان يخفي ان شكّه تحول يقيناً، فانتفض على ماضيه الشيوعي معلناً ذلك في «ظلام عند الظهيرة» مجازفاً بأن يهاجم حتى من مفكرين ديموقراطيين وجدوا في كتابته عمالة للفاشية (ومنهم جان بول سارتر وسيمون دي بوفوار!). لكن كوستلر لم يبال بذلك، كما سيذكر لاحقاً في الجزء الأول من سيرته الذاتية «الحبل المشدود»، ذلك انه كان يعرف انه على حق... وأن الستالينية «قد أضحت مجرد آلة للقتل»، القتل الجسدي والقتل المعنوي في آن معاً. وهذا بالتحديد ما ترويه هذه الرواية التي صدرت للمرة الأولى في العام 1940. وفيها استلهم الكاتب، بالطبع، تجربته الخاصة خلال انتمائه الشيوعي الذي لم يخلّف له، على ما قال، إلا الخيبة والمرارة. ذلك ان الكتاب، وعلى رغم طابعه الروائي، إنما هو سرد لعلاقة الصدام والخضوع ثم الصدام مجدداً التي تقوم بين الإنسان والحزب. والإنسان المعني هنا هو روباخوف، اما الحزب، فهو بالطبع الحزب الشيوعي. ومنذ بداية الرواية يحدث ان يعتقل روباخوف هذا، على رغم ما هو معروف عنه من انه كرّس حياته كلها من اجل خدمة حزبه الشيوعي الروسي... وبعد اعتقاله يحال روباخوف الى المحاكمة، فيحكم عليه بالإعدام ويتم تنفيذ الحكم فيه. اما تهمته فهي، كالعادة، الخيانة العظمى والتحريفية. وأما الأدلة هذه فإنما هي، كالعادة ايضاً، مأخوذة من أقواله وكتاباته نفسها، إذ تُحمَّل على ايدي متّهميه معاني ما كانت لها اصلاً. ولكن ما العجيب في هذا، وللحزب منطقه الذي يختلف عن منطق الأفراد؟ والرفاق يؤكدون هذا في صفحات الرواية حيث نجد النص الآتي: «إن الحزب لا يخطئ ابداً ايها الرفاق. يا رفيقي، انا وأنت يمكننا ان نخطئ. لكن الحزب لا يخطئ. الحزب هو شيء اكبر مني ومنك بكثير، وأكبر من ألف مثلك وألف مثلي. الحزب هو التجسّد العملي للفكرة الثورية في التاريخ. والتاريخ لا يعرف شيئاً اسمه الضمير او شيئاً اسمه التردّد. الحزب متماسك دائماً ولا يقهر ابداً، يسير كالسيل نحو هدفه. وهو عند كل منحنى في مجراه، يلفظ الوحل والطين الذي كان اصطحبه، كما يلفظ الجثث التي كانت قد غرقت فيه. والتاريخ، أيها الرفيق، يعرف طريقه، وهو لا يقترف اية أخطاء خلال تلك الطريق، أليس كذلك ايها الرفيق؟». وبالتحديد، فإن الحزب يعدم روباخوف، لأن روباخوف هذا لا يريد ان يواصل السير مغمض العينين على طريق ذلك التاريخ... بل وإنه ليجرؤ - وهذا افظع بالطبع! - على الحكم على مسرى التاريخ وإدانته... ولهذا فإن روباخوف دفع الثمن غالياً. لقد كان كتاب كوستلر هذا، واحداً من اقسى الكتب التي صدرت في ذلك الحين، مندّدة بالعمل الحزبي الشيوعي. ومن الواضح انه كان ثمة في المحاكمات السوفياتية وفي ممارسات ستالين وجماعته ما يبرر صدور مثل هذا الكتاب، ويضع ماء كثيراً في طاحونة مفكرين مثل كوستلر كانت خيبة املهم شديدة. ومع هذا، فإن كتّابا كثراً معتدلين، بل منهم من هو معاد للشيوعية، وجدوا ان في الكتاب مقداراً كبيراً من المبالغة، بمعنى انه لم يتوقف إلا عند المحاججات والأطر التي تدعم موقفه المعادي كلياً، وتسهل عليه النقد، بمعنى ان ما في الكتاب لم يتجاوز النظرة الشعبية السائدة لدى الأوساط المعادية اصلاً للشيوعية، ما منعه من ان يصل الى الجوهر الحقيقي للأمور. ومن هنا نظر كثر الى الكتاب على اعتبار انه ليس اكثر من بيان إدانة صاخب. لكن هذا بالذات ما أمّن له نجاحه، إذ نعرف ان مئات الألوف من نسخه الإنكليزية (اللغة التي صدر بها اصلاً) قد بيعت على الفور. اما بالنسبة الى آرثر كوستلر، فإنه، بعد صدور كتابه هذا، أقام في انكلترا، حيث امضى فيها، اولاً سنوات الحرب، متعاوناً مع اجهزة استخباراتها، في فترة كان بدأ الاتجاه خلالها نحو الصهيونية (ما زاد من الاهتمام بكتابه هذا من جهة، وما أفقده جزءاً كبيراً من صدقيته من جهة ثانية)، وقرر ان يناضل من اجل إنشاء دولة اسرائيل، وهو لهذا توجه العام 1944 الى فلسطين واستوحى هناك واحدة من اشهر رواياته «برج عزرا» التي كانت بياناً صهيونياً لا لبس فيه. ولكن هنا مرة اخرى، وبعد ان تأسس الكيان الصهيوني، عادت اسئلة آرثر كوستلر تقلقه من جديد. وتخلى عن الصهيونية تماماً، بل حتى قام بمحاولات عدة للتخلص من جذوره اليهودية وإنكار انتمائه الى الدين اليهودي. وهكذا راح يحاربه هذه المرة، اولئك الذين كانوا ساندوه في معاركه الأولى. اما هو فلقد اعلن منذ ذلك الحين مراراً وتكراراً انه اصبح بلا دين... بل اصبح ينتمي الى دين واحد هو دين الشك واللايقين. وقد ادى به هذا الى التوغل في تاريخ الشرط الإنساني ليضع كتابه التالي «السائرون نياماً» متحدثاً فيه عن الفارق بين ما هو روحي وما هو علمي... وقد امضى كوستلر بقية سنوات حياته، وحتى انتحاره مع زوجته سينثيا في العام 1988، وهو غارق بين شكوكه واسترجاعه ذكريات ماضيه الملون والمتبدل تبدل القرن العشرين نفسه، هو الذي كان احد أعلامه. [email protected]