المحاضرة الثانية جاءت تحت عنوان «التقليص من هيمنة الأمم والتقاليد» وفي مفتتحها يسجل سعيد تراجع المركزية الأوروبية الغربية بعد الحرب العالمية الثانية ونشوء ما يعرف بالعالم الثالث وحركات التحرر العالمية، فأوروبا لم تعد كما كانت تحدد المعايير والقيم لبقية العالم. لقد أصبح مفهوم المثقف أكثر تنوعاً وغنى مع صعود مفهومي الغيرية والاختلاف بفضل وسائل الاتصال الحديثة، فلم يعد من الممكن الحديث عن المثقفين بشكل عام كما كان يحدث من قبل، بل إن لكل مجموعة من المثقفين خصوصياتهم ومشكلاتهم وقضاياهم النابعة من انتماءاتهم الوطنية والدينية المختلفة. يُضاف إلى ذلك أن هناك لغات عديدة ومختلفة للمثقفين يتطلب إتقانها سنوات عدة وبعض هذه اللغات ذات جذور ضاربة في القدم مثل اللغتين العربية والصينية. وعلى الرغم من تراجع المفهوم العالمي لما يقصد من مفردة المثقف إلا أن هناك بعض السمات العامة للمثقف الفرد التي تبدو ممكنة التطبيق خارج الإطار المحلي الصرف. ينتمي كل مثقف بالضرورة إلى وطن ما وقومية ما. كما أنه يولد داخل إطار لغة بعينها يتحتم عليه أن يحسن استخدامها وتوظيفها في إحداث الأثر المنشود الذي يروم تحقيقه على من يتكلمون بها. غير أن مشكلة المثقف المحددة مع اللغة هي أن هناك عادات تعبيرية مهيمنة داخل اللغة نفسها هدفها المحافظة على الوضع الراهن وعرقلة محاولات التغيير. إن تلك العادات التعبيرية التي تتمثل في الصيغ المبتذلة «الكليشيهات»، والاستعارات المنهَكة والكتابة المترهلة إذا شئنا أن نستعير توصيف جورج أورويل لها، تعمل على تخدير العقل وتدفعه للإيمان والتسليم طوعًا دون مساءلة لما يراد له أن يؤمن به. إن اللغة السياسية كمثال مصممة «لتجعل الأكاذيب تبدو صادقة والإجرام جديرًا بالاحترام، ولكي تضفي مظهر الحصافة على الهراء البحت» حسب توصيف أورويل أيضًا. غير أن المشكلة أكبر من ذلك، وهو أمر يتضح من خلال التفحص المقتضب لكيفية ميل اللغة لاتخاذ أشكال أكثر عمومية وأكثر جماعية واتحادا كاللغة التي تستخدم في الصحافة على سبيل المثال. ولكن إذا ما نظرنا إلى الموضوع من زاوية معاكسة سيتبين لنا أن الصحافة لا تفعل شيئًا أكثر من توضيح وتثبيت ما هو متضمن أصلاً في اللغة الوطنية ذاتها. كان ماثيو أرنولد يرى أن مهمة المثقف الأساسية هي دعم وتقديم الهوية الوطنية على كل ما عداها حتى وإن كان ذلك على حساب الديمقراطية إذا ما أدى تطبيقها إلى خلخلة وضعضعة الوحدة الوطنية، مما يجعل دور المثقف يقتصر في هذه الحالة على تهدئة الناس وإقناعهم بضرورة التمسك بهويتهم الوطنية. في مقابل ذلك يقترح بيندا على المثقف أن يكف عن التفكير وفق المشاعر الجمعية، ويدعوه بدلا من ذلك إلى اعتناق القيم السامية التي يمكن أن تنطبق على كل الشعوب والأمم. إن التفكير الجمعي يهدد بتحويل المثقفين إلى مجرد كورس يردد صدى السياسة السائدة والمهيمنة وبالتالي إلغاء وتهميش دورهم كأفراد يثيرون الأسئلة ويطرحون الإشكاليات المبنية على أسس عقلانية وأخلاقية وسياسية ومنهجية. وحين يوضع المثقف الحقيقي أمام خياري التضامن أو النقد فإنه حتمًا سيختار النقد والاحتكام إلى العقل والحرية والعدالة. ويطرح سعيد هنا اسمي نعوم تشومسكي وغور فيدال، المثقفين الأمريكيين البارزين ممن يمثلون هذا الاتجاه. يعرّج سعيد كذلك على مقالة فرجينيا وولف الشهيرة «غرفة للمرء خاصة به» التي تتناول فيها علاقة المرأة بالرواية وتتعرض بالنقد للنظرة البطريركية الذكورية السائدة في المجتمع التي تعتبر الوضع الانقيادي للمرأة، باعتبارها الجنس الأضعف، أمرا مسلمًا به وغير مفكر فيه أساساً.