ربما لم يؤرق العرب خلال تاريخهم الحديث سؤال، بقدر ما أرقهم سؤال الهوية الذي ما زلنا عاجزين عن الإجابة عنه حتى هذه اللحظة: من نحن؟ نحن أمة تعاني من وجود أزمة على صعيد الهوية، أي أننا نواجه أزمة وجودية بكل ما تحمله العبارة من دلالات فعلية وليست مجازية كما قد يتبادر إلى الأذهان. جذور الأزمة تعود إلى أواخر القرن الثامن عشر، أي عندما شن نابليون بونابرت حملته على الشرق وتمكن من إخضاع مصر، أكبر حواضر العرب. المعركة العسكرية بين جيش بونابرت والمماليك كانت أشبه ما تكون بمواجهة بين مارد عملاق وقزم صغير.. وهو ما أحدث صدمة حضارية لدى المصريين والعرب، سرعان ما تعمقت بتعرفهم على المطبعة التي جلبها المحتل معه. هذه الصدمة الحضارية كانت السبب في تحريك المياه الراكدة في المنظومة الفكرية العربية، إذ سرعان ما حاول كل من الشيخين جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، الإجابة عن سؤال الهوية عبر طرح مفهوم جديد للتوحيد وضع حدا لحصر التوحيد في المجال اللاهوتي. ورغم الاختلاف المنهجي بين الرجلين حيث تميز الأفغاني بحسه الثوري وتميز محمد عبده بنفٓسه الإصلاحي، فقد كان للرجلين الفضل في اكتشاف آفاق عملية وحيوية لعقيدة التوحيد انعسكت في الربط بين التوحيد كعقيدة، وبين مبادئ المساواة والحرية ومحاربة الاستبداد والدعوة إلى منح الشرعية الشعبية المكانة الأهم في الفقه السياسي الإسلامي. وهو ما ظهر صداه في بلاد الشام عبر مشروع الشيخ عبد الرحمن الكواكبي صاحب المؤلف الشهير (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد). الإسلام المعاصر الذي تفاعل مع المنجز السياسي والعلمي والفكري لدى الغرب مع تشديده على ضرورة مقاومة النفوذ الأجنبي في المنطقة، كان بمنزلة بداية رحلة العقل العربي في محاولته إيجاد إجابات عن سؤال الهوية. إذ سرعان ما ظهرت في بدايات القرن العشرين عدة تيارات فكرية ادعى كل واحد منها أنه يمتلك الإجابة عن السؤال الأزمة ، فظهر في مصر تيار الليبرالية الإسلامية ممثلا في عباس محمود العقاد، وهو تيار توفيقي حاول إكمال بنود المصالحة بين الإسلام وبين الليبرالية الغربية الرأسمالية دون أن يتخذ موقفا واضحا من سياسات الهيمنة في المنطقة إلا فيما يتعلق بقضية الاستقلال الوطني التي حملها حزب الوفد في بداياته، على كاهله. لكن وبعد تأسيس دولة العدو الصهيوني، كان لهذا التيار جهود جيدة في التنبيه إلى الخطر الصهيوني، لكن من دون طرح مشروع يحمل بين طياته وصفة كفيلة بمعالجة هذا الخطر الوجودي الداهم. وقد كان حزب الوفد الشهير هو الواجهة السياسية لهذا التيار الفكري. بالمقابل ظهر تيار فكري آخر متطرف في ليبراليته مثله طه حسين وأحمد لطفي السيد، وطرح الفرنكوفونية باعتبارها الاستجابة الأمثل لتحديات العصر من جهة، وللعودة إلى الجذور المكونة لهوية مصر باعتبارها دولة متوسطية وليست عربية من جهة أخرى!.. ووصل التطرف بهذا التيار الذي تأثر بالأتاتوركية، إلى الدعوة إلى اعتماد الرسم اللاتيني بدلا من الرسم العربي لحروف الأبجدية! وقد كان حزب الأحرار الدستوريين هو الواجهة السياسية لهذا التيار. بالإضافة إلى ذلك ظهر التيار الشيوعي ممثلا في سلامة موسى، كما ظهرت جماعة الإخوان المسلمين التي لجأت إلى الموروث الخارجي لتقديم رؤية شاذة ومسيسة للإسلام، تمثلت فيما عرف بمبدأ الحاكمية. وباستثناء جماعة الإخوان ذات الأيديولوجية الإقصائية التي شرعت استخدام العنف، فإن مشكلة التيارات الآنف ذكرها أنها لم تنجح في الخروج من برجها العاجي، حيث افتقرت إلى طرح مشاريع مهتمة بتغطية الجوانب الحيوية من حياة الجماهير. وهكذا ظل طرح هذه التيارات مقتصرا على التنظير القائم على التجريد لمعالجة مسألة الهوية، دون طرح رؤى خاصة بالنظم الاقتصادية وعلاقات الطبقات ببعضها ببعض، على العكس من المشروع القومي الذي ربط أيديولوجيته بالدفاع عن مصالح الطبقتين المتوسطة والفقيرة في مواجهة الأرستقراطية التقليدية التي كانت تحتكر الجزء الأعظم من الثروة القومية. لكن الشعارات العظيمة التي رفعها المشروع القومي عن التحرير وتحقيق الاكتفاء الذاتي والتحرر والعدالة الاجتماعية والمساواة والوحدة العربية، اصطدمت بأداء سياسي اتسم في أحيان بالعشوائية، وفي أحيان أخرى بالقمع والفساد، حتى غدا الطابع البوليسي هو السمة المميزة للدولة القومية. وقد كانت هزيمة 67 التعبير الشامل عن كل مناحي القصور والخلل السابق ذكرها في أداء النظام السياسي في ذلك الوقت. لكن شرعية المشروع القومي لم تتعرض لهزة حقيقية رغم إخفاقات النظام السياسي ، إلا عندما استعان الرئيس السادات بجماعة الإخوان المسلمين. ومع تنفيذ أولى خطوات ما سمي بسياسة الانفتاح الاقتصادي التي تزامنت مع الحرب الأهلية اللبنانية ، بدأ تمهيد الساحة لتوقيع معاهدة سلام مع العدو تكون بمنزلة المسمار الأخير في نعش المشروع القومي . توالت الأحداث بعد ذلك بصورة مذهلة، وبشكل عمّق من أزمة الهوية خصوصا بعد أن كسب الإسلام الجهادي القائم على التكفير، أرضا واسعة بسبب معركته مع الاتحاد السوفييتي في أفغانستان . وزاد من عمق الأزمة الحماقة الكبرى التي قام بها الرئيس العراقي آنذاك صدام حسين الذي احتل الكويت وأعلن عن ضمها بعد مرور أقل من أسبوع على غزوها ! كل المعطيات السابق ذكرها خلقت فراغا خطيرا على الساحة العربية ترك الفرصة أمام جماعات الإرهاب التكفيري لملئه في أكثر من موقع . والحقيقة أن حالة الفراغ المفزعة التي يعيشها الوطن العربي، لم تنج عن الواقع السياسي الذي يسيطر عليه التشرذم، بقدر ما نتجت عن غياب المشروع العربي في ظل وجود كل هذا الكم من المشاريع الدولية ( المشروع الغربي في مواجهة المشروع الروسي) والإقليمية (المشروع الصهيوني والإيراني والتركي) التي تتنافس جميعا في استقطاب العرب. لا حل بلا مشروع عربي مستقل، ولا مشروع عربي مستقل بلا إجابة واضحة عن سؤال الهوية. دون أن تعرف من أنت لن تستطيع تحديد ماهية أهدافك الحالية أو خططك المستقبلية.