من جديد تكشف لنا الأحداث الأخيرة في غزةوالعراق استمرارية ضعف النظام العربي الرسمي وعجزه عن مواجهة الأعداء والتصدي لهم، ففي غزة وقف النظام العربي دون حراك أمام المجازر الإسرائيلية المتواصلة بحق الشعب الفلسطيني المكافح لنيل حقوقه المشروعة، يشجعهم في ذلك غياب أي نوع من العزيمة على المواجهة، حتى لو كانت ديبلوماسية. وفّشل النظام العربي الرسمي في مواجهة الغطرسة الإسرائيلية ليس بجديد، ومنظر غزة وهي تتعرض لكل هذا الدمار على يد الماكينة العسكرية الإسرائيلية سبق أن شاهدناه وعشناه بتفاصيله الدامية والمبكية، فبعد انتهائها من دك مساكن الناس على رؤوس ساكنيها وتدمير كل مقومات البنى التحتية، والانقضاض على المدارس والمستشفيات التي تحولت إلى ملاجئ للأطفال والنساء والعجزة والمصابين، وبعد تفجر بركان الغضب على هذه الجرائم في كثير من بلدان العالم، واحتشاد عشرات الآلاف من أصحاب الضمير الحي في شوارع وساحات عواصم بلدانهم منددين بالجرائم والأعمال الهمجية للنظام الإسرائيلي «باستثناء البلدان العربية طبعاً»، سيبدأ ممثلو النظام العربي في التحرك الديبلوماسي لاستخراج صك اعتراض من مجلس الأمن أو من الجمعية العامة للأمم المتحدة على انتهاك إسرائيل للقوانين والأعراف الدولية، كي يقدموا لشعوبهم التبرير على بقائهم مكتوفي الأيدي مغلقي الأفواه محدقين في شاشات التليفزيون وكأنهم يشاهدون مباراة ملاكمة بين ملاكمين يتنافسان على حزام البطولة، ومستخدمين هذا التحرك كحقن تخدير لشعوبهم الملتهية بتوفير ما يؤمن لها حياة دون عوز وحاجة، ولإقناعهم بأنه من الأصلح والأنفع لهم البقاء صامتين شاكرين الله على ما أنعم به عليهم من أنظمة تعرف كيف تحميهم بإبعادهم عن أي مواجهة مهما كان نوعها قد تقوض نومهم العميق. وأنه سيكفي التحرك في قاعات وغرف الاجتماعات في مبنى الأممالمتحدة بنيويورك، مع تغطية إعلامية واسعة على أن عملهم هذا، هو قمة السياسة الذكية، باعتبار السياسة هي فن الممكن. أما الموقع الثاني الذي انكشف فيه عجز النظام العربي بصورة موغلة في المأساوية وظهر فيه فشله، فهو العراق، حينما تم الإعلان عن قيام دولة الخلافة على أراض مقتطعة من دولتين عربيتين «العراقوسوريا»، والتعرض لبعض من سكان هذين البلدين تشريداً وقتلاً تحت واجهات دينية مغرقة في التخلف والوحشية. فعدم إدانة قيام هذه الدولة من قبل الحكومات العربية منفردة أو مجتمعة -عبر الجامعة العربية – منذ اللحظات الأولى للإعلان عنها ومعارضة فكرة قيامها من حيث المبدأ، يوحي وكأنه قبول باقتطاع أجزاء من أراضي العراقوسوريا وهو ما يمكن احتسابه انتهاكاً لسيادتهما، أو تسليماً بالأمر الواقع، مع أن هذا الإعلان لا يمتلك الأساس القانوني ولا الصفة الوطنية، لعدم اشتراك قاطنيهما الأصليين في تأسيسها، وعدم منحهم الحرية في الانضمام إليها، وهو ما يعد تجاهلاً لميثاق الجامعة العربية بل واستخفافاً به، فالمادة الثانية من الميثاق تنص على أن الغرض من تأسيس الجامعة العربيةصيانة استقلال وسيادة الدول المشتركة فيها. كما أن المادة الثامنة من الميثاق تنص على احترام كل دولة من الدول المشتركة في الجامعة نظام الحكم القائم في دول الجامعة الأخرى، وتعتبره حقاً من حقوق تلك الدولة، وتتعهد بأن لا تقوم بعمل يرمي إلى تغيير ذلك النظام. ويظهر عجز النظام العربي المتمثل في موقف الجامعة العربية وغياب الإرادة الجادة على المواجهة في عدم وضعه لأي خطة أو تبنيه حملة لإيقاف الممارسات الهمجية والمتجردة من المعاني الإنسانية، المرتكبة من قبل رجال وميلشيات هذه الدولة تجاه طوائف مسلمة وأقليات دينية غير مسلمة من مكونات الشعب العراقي ومن سكانه الأصليين كالأشوريين والكلدانيين والإيزيديين، الذين لم يهاجروا من شتات الأرض إلى العراق ليستوطنوا فيها ويزرعوا لأنفسهم كياناً غاشماً على حساب السكان الأصليين كما حدث في فلسطين، فهم من سكان هذه الديار منذ القدم وقبل وصول الإسلام إليها، وليس ذنبهم أنهم ظلوا على دين آبائهم وأجدادهم، ولم يختاروا الإسلام ديناً لهم، وقد أبقاهم من حكم هذه الديار من المسلمين على دينهم ولم يجبروهم تحت طائلة قطع الرقاب بالتحول نحو دين الإسلام. وقد مُورست نفس الأساليب تجاه الأقليات والديانات الأخرى، من قبل نفس المجموعات في سوريا، ولكن لم يجر التشهير بها أو التصدي لها كممارسات همجية أفسدت قضية نضال الشعب السوري من أجل حياة كريمة خالية من مظاهر الاستبداد وتطبيقاته. وهذا مقياس آخر لقصر نظر النظام العربي الرسمي ومكوناته وعجزه عن امتلاك رؤية استراتيجية تجاه مخاطر سياسات التهميش والإقصاء للأقليات القومية والدينية والطائفية على وحدة البلدان العربية وسيادتها، التي مُورست وتمارس في أكثر من دولة من الدول المشاركة في النظام العربي، وتغذيتها بالكتاب المدرسي التكفيري والخطاب الديني الإقصائي، وببرامج ولقاءات القنوات الفضائية الطائفية والمتسترة بواجهات دينية، فجاءت ثمارها تلك الأفعال الدموية التي فُجرت على الأراضي السورية والعراقية بيد هذه المنظمات الإرهابية المعتمدة على عقائد مستخرجة من جحور عصور الظلام، وممارسات مستوحاة ومستنسخة من عهود العبودية والإقطاع. لقد فاجأ النجاح العسكري الداعشي السريع الجميع «باستثناء من يقف خلفه» وأولهم النظام العراقي الذي كان من المفترض أن يكون على رأس الشاعرين بمداهمة هذا الخطر، ولكن هشاشته وافتقاره لمساندة كافة مكونات شعبه منعه من التصدي المبكر لمخططات القاعدة وتفريخاتها الداعشية، وأخل بقدرته على الإطاحة بهذه المنظمات الإرهابية قبل الهجوم عليه، فانهارت دفاعاته بلمح البصر، ولم ينل أي تعاطف أو مساندة من قبل النظام العربي الذي وقف غير مبالٍ بما جرى، وكأن ما يحدث ليس ناراً قريبة، قد تدفع الريح بشرارها لهشيمهم مثلما أشعلتها في هشيم النظام العراقي! إن اعتقاد النظام العربي بحصانته من نار داعش وامتلاكه القوة الكافية للتصدي لها، وأن العالم لن يتركهم لوحدهم متى ما وصل لهيبها إليهم، كما حدث من قبل في الكويت ويحدث الآن في العراق، قد لا يحقق الفعالية الكافية لإخماد الحريق الداعشي والقضاء على وهجه وجمراته. فالاختلاف بين الحالتين عميق في المحتوى والشكل، فمثلما يجري الآن من استقطاب لشباب عراقي وغير عراقي للالتحاق بمليشيات داعش والقتال في صفوفها، ستعتمد داعش مستقبلاً في مواجهتها لهذا التدخل لو حدث على كسب مزيد من المتعاطفين والمناصرين المنتشرين في مختلف البلدان العربية، من تمت تغذيتهم وتثقيفهم على مدى سنين طويلة بنفس العقيدة التي تتبناها «دولة الخلافة»، وعلى انضمام الطامحين في كسب الغنائم ممن لا يترددون في تغيير جلودهم في أي وقت للفوز بالمناصب والمراكز المفيدة، وهذا ما سيجعل أي مواجهة قادمة مع هذه القوى قاسية ومكلفة. إن نتائج التدخل الأمريكي العسكري النهائية في العراق ليست واضحة حتى هذه اللحظة، ولكنها قد تكون متشابهة لما حدث في أفغانستان من عودة هؤلاء المقاتلين إلى أوطانهم محملين بأطنان من الحقد والكراهية وروح الانتقام ممن تسبب في هزيمتهم، فهل النظام العربي يملك الإرادة على هذه المواجهة، وهل هو باستراتيجيته وتكتيكاته قادر على ذلك، أم إنه في حاجة لاستراتيجية جديدة تغير من ميزان القوى لهذه المواجهة، التي إن لم تحدث هنا فستحدث هناك؟