الحديث عن الفساد هو في حقيقته حديث عن طرفين، أولهما المفسد أو الذي يقوم بالفساد كفعل، وثانيهما المتضرر أياً كانت صفته، شخصاً أو منظمة أو حتى بلداً، الحديث هنا عن الطرف الأول وهو المفسد كعنوان هو حديث عن الأرضية والبيئة والمقومات التي منحت شخصاً كهذا القدرة على الإفساد، وعن الرفض الاجتماعي من جانب آخر كجبهة تقف في وجه هذا المفسد، بمعنى أن الإنسان ولأسباب كثيرة حينما يرى المجال مفتوحاً إليه ليُصبح فاسداً ومُفسداً ويجني من ذلك كثيراً من المكاسب فإنه عادة ما ينجر إلى ذلك خاصة مع ضعف الوازع الديني أو الأخلاقي وأيضاً بسبب عدم وجود الجهة التي تقف في وجهه أياً كانت الجهة، وقبل التعمق في الأمر يجدر التنبيه على أن الفساد لا يعني كما يظن كثيرون مجرد السرقة من مال المنظمة التي ينتمي إليها، الفساد هو عنوان كبير يشمل كل عمل وسلوك ينافي الشرف والأمانة، فاستخدام المسؤول نفوذه وصلاحياته في تحقيق مكاسب شخصية أو فئوية هو فساد، (الشللية) الإدارية وما يتبعها من تبادل المصالح على حساب القانون فساد، عدم الالتزام بأداء العمل كما ينبغي فساد، من هنا فالفساد له أساليب وصور كثيرة كما أن ممارسيه قد يكونون من كافة المستويات الوظيفية والطبقات الاجتماعية. لا شك أن معظم أفراد المجتمع من المتضررين بالفساد ولكن المشكلة الحقيقية هنا هي حينما يكون هذا الفساد (عادة) اجتماعية وسلوكاً لا يمكن الحياة بدونهما، بمعنى أوضح وحينما يُصبح نيل الأشياء عن طريق مخالفة القانون هو عادة فإن معظم أفراد المجتمع كحالة طبيعية سيشاركون بالفساد لأنهم قبلوا به كسلوك وأصبحوا يتعاملون معه على أساس أنه قانون ينبغي الاستمرار عليه والرضا به كواقع لنيل حاجاتهم، الأمثلة في هذا السياق أكثر من أن تحصى، فحينما يكون استخراج تصريح لمشروع معين يتطلب على سبيل المثال إعطاء رشاوى مالية أو عينية أو أي طريق ملتو آخر فإن كثيراً من الناس عادةً سينجرون إلى هذا العمل المخالف للقانون لأنه الطريق الوحيد في نظرهم لنيل حاجتهم دونما معارضة من أحد، من هنا فأول طرق محاربة الفساد كما أعتقد هي في عنوان يصح لي أن أسميه (الرفض)، الرفض في معناه هو عدم الرضوخ للطرف الآخر المفسد ولأوامره وطلباته المخالفة للقانون، في المثال السابق لو أن كل شخص رفض الرضوخ للفاسد ولم يُعطه الرشوة بل قام بتصعيد الأمر ضده فإن معظم حالات الفساد المشابهة ستنتهي، أعني أن بعض الأشخاص ربما يملكون نفوذاً وسلطة عالية قد لا يتمكن الإنسان من الوقوف في وجههم ولكن في المجمل لو رفض كل مواطن (التنازل) عن القيم ورفض الطرق الملتوية لنيل الأشياء لغدا الفساد نادراً جداً في المجتمع. في اعتقادي أن مسؤولية الفساد في أي مجتمع يتحملها كافة أفراد المجتمع، هناك بالتأكيد تفاوت في نسبة التحمل ولكن يبقى الجميع معنيّاً بالأمر، مشكلة الكثيرين أنهم لا يكترثون بأي وضع سلبي مخالف للقانون، لأنهم دائماً ما يعولون على الدولة وأجهزتها الأمنية في القضاء على كل سلوك مخالف للقانون، في اعتقادي أن هذا الأمر غير صحيح، المواطن يتحمل نسبة ليست بسيطة من أي واقع متخلف، لأنه حينما قبل به جعل المُفسد الذي يسرق أو يظلم أو يعتدي على الحقوق يشعر وكأنما هو يقوم بحق مكتسب يملكه رغماً عن كل أحد، لأنه لم يجد من المجتمع إلا الانصياع لرغباته، من جانبٍ آخر فإن كثيرين مع الأسف يمارسون دوراً تثبيطياً لأي شخص يقف في وجه الفساد، (وشْ لك بوجع الراس؟!) (جرَّبها غيرك وما قدر) (الباطل قوي) وكلمات كثيرة في هذا الصدد كلها تأتي في سياق التثبيط وإقناع المواطن بعدم جدوى مواجهة الفاسدين، في اعتقادي أن هؤلاء يخدمون الفاسدين من حيث أرادوا أو لم يريدوا، وربما كانوا من حيث لا يشعرون أكثر ضرراً منهم، وعوضاً عن دور كهذا ينبغي أن يدعم كل شخص من حوله ويؤكد على ضرورة (رفض) أوامر وطلبات هؤلاء وتصعيد مخالفاتهم إلى أجهزة الدولة بالسلم القانوني المعروف وبالطريقة المناسبة. حينما صدر الأمر الملكي الكريم في 1432/04/13 ه بإنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد (نزاهة) فإنَّ كثيرين استبشروا خيراً ببداية عهد جديد من الإصلاح، غير أنَّ (نزاهة) في حقيقتها هي يد واحدة لا تستطيع التصفيق، بينما اليد الأخرى هي المواطنون بكافة شرائحهم، (نزاهة) تحتاج إلى دعم اجتماعي كبير، وما لم يحدث ذلك وبقي المجتمع غير مكترث فستبقى متعثرة أو بطيئة الخطى في مشروعها الإصلاحي المهم، وسيبقى الفاسدون على منوالهم القائم على (مص دم) أبناء المجتمع والاستمرار في إنهاكهم وتعطيل مصالحهم وسيبقى المتضرر الأول والأكبر من كل ذلك هو الوطن بكافة مكوناته وشرائحه.