إليكم هذه التحديدات المجنونة: الكتابة الجديرة بالقراءة عند ألبير كامو هي الكتابة اللاذعة وحسب. جوهر الفن في فكر هايدغر هو الشعر ولكن الشعر هبة وعطاء يتجاوز العادي والمألوف ويمنح التاريخ دفعة ليبدأ من جديد، الشعر لديه يعيد صوغ الحقيقة خارج المنطق والعقل والفكر التصوري، أما جان كاكتو، المخرج والشاعر الفرنسي متعدد المواهب، فإنه يقدح الإبداع بنار الجنون والترويع، «الشعر هو المروع» وفاكهة الشعر الغموض. ويمكن للشاعر أن يكون مثقفا أو مجنونا، ذاتيا أو ثوريا، أو أي شيء عدا أن يكون مقبولا اجتماعيا، وفي هذا يقول الشاعر بوكوفسكي الذي يحب العنب والطعام ولا يقرأ كل الكتب: «المنطقة التي تفصل الدماغ عن الروح، تتأثر بالتجربة بشتى الطرق.. بعضهم يفقد عقله ويصبح روحا: مجنون…. بعضهم يفقد روحه ويصبح عاقلا: مثقف… بعضهم يفقد الاثنين: مقبول اجتماعيا». حشدت هذه الرؤى لأفضح آفتين متنافرتين تتصف بهما النخبة الثقافية: التعالي والتملق. فالمثقف لدينا نتاج لتناشزات تراجيدية بين تقليد التبعية والتسول كإرث مستمد من الماضي من جهة وحداثة الدور المستورد من سياقات اجتماعية وتاريخية مغايرة من جهة أخرى. حيث دائما وأبدا يظل النخبوي كما هو، كائن متعالٍ حين ينظر إلى الأسفل، شحاذ فيما سوى ذلك. وكل شيء يمكن أن يتغير فيه إلا السمة الطفيلية وازدراء «العامة»، أن يتكسب ويتسلق مثل أي وصولي، ويضحك على العامة بخدع الخطاب وألاعيبه. لا ينفك المثقف لدينا عن أن يكون تبعيا، فلكي يستجدي القبول ويجد له مكانة لائقة بين «الخاصة»، يجد ذاته مرغما على خيانة الوظيفة والدور المنوط به.. الأنتلجنسيا في واقعنا تخون ذاتها دائما، إنها ممزقة بين تاريخ الترضيات حيث الأديب بالمعنى التراثي هو شاعر المديح، وبين مرجعية حديثة لمثقف مستقل بالضرورة، مثقف لا يقيم مزرعته الخاصة ولا يستجدي أحدا، يغادر العالم ويصنع عالماً آخر على طريقته، يقيم في الخارج دائما، خارج القبيلة والطائفة وكل إطار أو تجمع سلطوي. الاستقلالية صفة أساسية في المثقف الحديث، لاحظها المفكر الفرنسي «جيرار ليكريك» في كتابه «سوسيولوجيا المثقفين». بدأ المثقف يتكون حيث بدأ التمرد، وانكسرت حلقات التبعية، بدأت النخبة الثقافية تتكون منذ أن بدأ المثقف يسن لذاته تعريفا مغايرا.. هناك أكثر من تاريخ تأسيسي كما يقول «ليكريك»، فرنسا -على سبيل المثال- دخلت عصر المثقف مع تفجر قضية داريفوس، الضابط الفرنسي البريء من تهم التآمر لصالح الألمان في القرن التاسع عشر، الذي ساندته نخبة المثقفين آنذاك بقيادة الروائي «إيميل زولا»، حينها بدأ المثقف يعي ذاته كذات مستقلة، ليست مهجوسة بالكليات المفارقة، بالميتافيزيقا واللانهائي المفارق كما كان يفعل سلفه القروسطي، بل صار معنيا بتلك الممارسات التوحيدية الأكثر تمردا ومعارضة ضد الواقع التراتبي والطبقي: مزج اللانهائي بالنهائي، والكليات المثالية بالمادة وواقعية الراهن والآني، صار المعنى ملتصقا بالأرض، والسيادة والمشروعية شعبية بامتياز، تحولت النخبوية من تبرير لما هو سلطوي إلى انحياز لكل ما هو مهمش ومستبعد، أصبح للنخبة نكهة مستمدة من قضية داريفوس، المغضوب عليه من السلطات الفرنسية، مما يعني أن الحدث الافتتاحي كان حدثا انشقاقيا، قطيعة يقيمها المثقف بين رجل الأدب الحديث وسلفه رجل الماورائيات والفروسية المتسولة على أعتاب السيد الاقطاعي. أما في واقعنا الثقافي فالقطيعة لم تكتمل بعد، مادام للتوحيدي الذي أحرق كتبه ورثة مقصيون عن المائدة، إذ ما زال المثقف يشحذ ويمدح ويقتات، وفيما هو يتصعلك على موائد الخاصة يأنف من مشاركة الصعالكة من العامة، تلك هي المفارقة، قزمية تحاول الصعود على أكتاف الألم والحرمان والتهميش، ولكن أيضا الحقيقة، فالتبعية تنتج زيف الخطاب في كل مرة تتراجع فيها عن المواجهة وتتعالى على هموم المرحلة، لا أدري كيف يستمرئ المثقف بيع الترضيات وتزوير الخطاب بتحريف الهموم الواقعية وبلع إملاءات أرباب النعمة. بوسعي أن أستفيض بتعداد النماذج التي من شأنها الفضح والتعرية، أن أذكر معاناة كثير من المثقفين والنخب كالفيلسوف برتراند رسل الذي سجن بسبب نشاطه المناهض للحرب، وموقف سارتر المناهض لحكومته في قضية الجزائر، أو مشاغبة الروائي الألماني «غونتر غراس» بقصيدته «ما ينبغي أن يقال» ذائعة الصيت حول إسرائيل وممارساتها العنصرية، أو اهتمام الفيلسوف الفرنسي بقضية السجناء في فرنسا، كل ذلك يفضح الدلالات الانسحابية التي نصطدم بها كلما واجهنا تحديا اجتماعيا، ليس المثقف إذن من يجيد الترضية، بل هو – بالتعريف- من يتقن الشقاق. التكسب، التبعية، الوصولية والتملق..الخ، مفردات أساسية يمتاز بها الشحاذ وليس الأديب. متى يدرك «مثقف الترضية» أن الأدب اليوم ليس مديحا للخاصة أو خطاباً مؤثثاً بكولاج الترضية، الأدب اليوم منذ نيتشة وهايدغر وحتى جاك رانسيير هو اسم جديد لحقيقة تتسم بأرضيتها وآنيتها وانسانيتها، ليس من شأن الأدب الإقامة في أبراج عاجية، ولا التكسب بتوزيع المدائح أو الترضيات، وإنما الإقامة في «العالم وإنتاج الأرض» على حد قول هايدغر، إنها مهمة شقاقية هرطيقية دائما، مما ينفي الأديب والفنان والشاعر والمفكر من عالم الترضيات والتبريرات ليقيم في بيته حيث التشرد في عالم ذاتي، ليتحول من حرق الكتب والنفي من العالم إلى حرق الحدائق الخلفية والموائد الخاصة والمشاركة في تشييد العالم، ولكي يتحول -أخيرا- من مجرد أثر فاني لشحاذ يلحس الأحذية إلى محض فعالية فنية تترك أثرها في العالم وتوزغ بصماتها الخالدة والمستقلة، تماما كما فعل فان غوخ بحذائه: ينتصب خالدا ليدين كل موقع ينبغي أن يتغير، إنه حذاء الفقير فان غوخ!