في الأسبوع الماضي تحدثنا عن الاقتراح الذي تقدمت به لجنة الإدارة والموارد البشرية في مجلس الشورى لتمديد سن تقاعد السعوديين، وأنه اقتراح نابع من أن سن الستين لم يعد ذلك السن الذي يكون الإنسان فيه عاجزاً وغير قادر على خدمة الوطن، كما أنه سيساعد مؤسسات التقاعد على زيادة تحصيلاتها المالية من مشتركيها كي تقلل من خطر العجز المالي المتوقع أن تتعرض إليه جميع مؤسسات التقاعد السعودية بعد ربع قرن من الآن. وإذا كانت العتبة القانونية للتقاعد هي سن الستين في معظم البلاد العربية وبعض البلدان الأوروبية، إلا أن هناك عدداً من البلدان المتقدمة لم تجعل الستين أبداً العتبة القانونية للتقاعد الرسمي، وإنما جعلته فوق الثانية والستين، وبعضها جعله عند الخامسة والستين. وتحت حجة تفادي العجز المالي المحدق بصناديق ومؤسسات التقاعد في بعض هذه البلدان، وعدم انكشافها مالياً أمام استحقاقاتها لمشتركيها المتقاعدين، تجرى محاولات لتمديد سن التقاعد حتى لما بعد الخامسة والستين، الأمر الذي لم تستحسنه أو ترحب به النقابات المهنية، ففي جميع البلدان التي تقدمت حكوماتها إلى مجالسها التشريعية بطلب تعديل سن التقاعد قامت المظاهرات الجماهيرية والاحتجاجات الصاخبة الرافضة لتمديد سن التقاعد، وقد استطاعت الحكومات ذات الأغلبية البرلمانية نيل الموافقة المطلوبة من مجالسها التشريعية لتمديد سن التقاعد، كما حصل في فرنسا مؤخراً، التي سترفع عمر التقاعد الإلزامي إلى 62 عاماً بدءا من 2018، وتدريجياً ستختفي الستون عاما من معظم البلدان الأوروبية كسن للعتبة التقاعدية، لترتفع إلى ما فوق 62 عاماً. ولن تكون مفاجأة بعد سنوات قليلة أن نجد بعض البلدان من ينوي رفع سن التقاعد إلى السبعين، كما كان حينما ابتدأت ألمانيا ذلك في أواخر القرن التاسع عشر. فالعتبة القانونية لسن التقاعد مرتبطة بعوامل عدة، من ضمنها العامل الديموغرافي. وارتفاع نسبة كبار السن في المجتمع وتحسن الرعاية الصحية ومخرجات التعليم. وحين تطبيق هذه العوامل على مجتمعنا السعودي، نجده ما زال مجتمعا شاباً من الناحية العمرية، فنسبة الشباب من بين السكان عالية وستبقى عالية لسنوات قادمة، كما أن معدل المواليد يعد عالياً بالمقاييس الدولية، وفي الوقت نفسه هناك تحسن مضطرد في معدل الوفيات وطول العمر، فمع تحسن الرعاية الصحية وازدياد الوعي الصحي أصبح المواطن رجلاً أو امرأة قادراً على العمل في بعض المهن دون مشقة وهو في الستين من عمره، مما يجعله رافضاً للتقاعد في هذا العمر. ويعود ذلك إلى أن هؤلاء العاملين، وخاصة ممن أنهى تعليمه الجامعي، لن يكون بمقدوره إكمال الأربعين سنة من الخدمة التي تؤهله، وفق أنظمة التقاعد، للحصول على معاش تقاعدي كامل حين بلوغه الستين، وهذا ما يدفع لمن لا يملك ادخاراً، أو مصادر دخل إضافية تؤمن له العيش بمستوى لا يقل عما كان يحياه قبل تقاعده للقبول بالعمل سنوات أخرى تساعده في زيادة معاشه التقاعدي، أو في اللجوء إلى التقاعد المبكر بحثاً عن مصادر رزق إضافية تعينه على تأمين حياة مستقرة له ولعائلته قبل أن يبلغ الستين ولا يكون في مقدوره أن يفعل ما يفعله الشباب. وتأتي الحاجة للرعاية الطبية الضرورية في مقدمة المصاعب التي تواجه كثيرا من المتقاعدين وتقتطع جزءاً كبيراً من معاشهم التقاعدي المحدود، خاصة حين الحاجة إلى عناية مستعجلة، لا تتوفر في المستشفيات الحكومية مما يدفعهم للجوء إلى المستشفيات الخاصة ذات الرسوم الباهظة التي لا تستطيع معاشاتهم تحملها. وهذا ما يخلق مبررات تدفع باتجاه القبول بفكرة تمديد سن التقاعد الإلزامي، لكن هذا التمديد -لو أقر- سيترك أثره على عدد الوظائف المتاحة لآلاف السعوديين الباحثين عن العمل، ما لم يتم ربط هذا التمديد بإنهاء خدمات مئات الآلاف من العمال والموظفين غير السعوديين، فالبلدان التي تنوي تمديد العتبة القانونية لسن التقاعد لا تعاني من بطالة عالية بين قواها العاملة المحلية، متزامنة مع وجود مئات الآلاف من العمال والموظفين غير المحليين العاملين في جميع القطاعات والمجالات الإنتاجية والخدماتية. قد لا يكون هناك مفر من تمديد سن التقاعد الإلزامي في السعودية إن لم يكن الآن فسيكون في القريب العاجل، ولكن قبل اتخاذ هذا القرار المهم يفترض أن تكون لدينا المعلومات الكافية والإحصائيات الضرورية التي تساعدنا في اتخاذ الخيار الذي يخدم المواطن والوطن في وقت واحد، وذلك من خلال: أولا، القيام بالدراسات والاستبيانات الضرورية لتمدنا بالمعلومة المفيدة والموثوقة، التي على ضوئها يمكن بناء التوقعات والتأثيرات الاجتماعية والمالية لهذا التمديد. «مثل كم من المواطنين سيتقاعد خلال عقد من الزمان، وما هي طبيعة أعمالهم، وهل لدينا من القوى العاملة المؤهلة لتحل محلهم، وغير ذلك من التفاصيل غير المتاحة في الوقت الراهن»، التي يفترض أن تكون وزارة الاقتصاد والتخطيط قادرة على القيام بذلك. ثانياً، يجب أن يربط اقتراح التمديد ببرنامج إصلاحي شامل لكافة الأنظمة المتصلة بالتقاعد، يتركز على إيجاد آلية عملية للحد أو للتقليل من حجم المعاناة التي يحياها المتقاعدون ذوو المعاشات المنخفضة جراء قلة وثبات معاشاتهم التقاعدية طوال حياتهم، ومن معاناة الأسرة حين وفاة المعيل «الزوج، الأب». فدخل الأسرة ينخفض انخفاضاً حاداً بوفاة المعيل، ذلك أن الجزء الأكبر من المعاش يتم شطبه دون أن يؤخذ في الحسبان عدد سنوات الخدمة ومقدار الاشتراكات التي دفعها لجهة التقاعد، فالورثة لا يحصلون إلا على جزء بسيط من معاش معيلهم، وإزالة عدم المساواة بين الرجل والمرأة فيما يدفع للتابعين من أفراد الأسرة، ومن هنا قد يكون تعميم فكرة برامج الادخار «التوفير» الإلزامي مشابهاً لما تفعله شركة أرامكو وسابك على جميع العاملين السعوديين منفذاً لمعالجة بعض من هذه التأثيرات القاسية، وإعادة احتساب مكافأة نهاية الخدمة لموظفي الدولة أسوة بمن ينطبق عليهم نظام العمل. ثالثاً أن لا تكون مدة التمديد واحدة لجميع الأعمال والمهن، بل من الأفضل التمييز بين مهنة وأخرى، فهناك أعمال شاقة يفترض أن يكون فيها سن التقاعد الإلزامي أقل من ستين عاما، والتقاعد المبكر أقل من خمسة وعشرين عاماً كي ينال المتقاعد معاشه التقاعدي كاملاً تعويضاً له عن سنوات العمل الشاقة التي قضى فيها زهرة شبابه، كما أن هناك من الأعمال التي سيؤدي تمديد عمر التقاعد الإلزامي إلى تحقيق قيمة إضافية تخدم الوطن، كأساتذة الطب -على سبيل المثال- الذين لم ينالوا درجاتهم العلمية بسهولة وفي وقت قصير، فبقاؤهم على رأس العمل لسنوات إضافية سيخدم الوطن من جهة ويمنحهم الفرصة لنيل معاش التقاعد كاملاً من جهة أخرى، بعكس معلمي المدارس الذين أنهوا تعليمهم الجامعي في أربع سنوات وابتدأوا العمل وعمرهم لم يتجاوز الخامسة والعشرين، فقد يكون الإبقاء على سن التقاعد ببلوغ الستين عاماً أكثر جدوى للوطن من تمديد عتبتهم التقاعدية. رابعاً أن يكون هناك تأمين طبي شامل لجميع المتقاعدين.