حذر محافظ المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية من أن الفائض في الصندوق سيتقلص «ويقصد بذلك ما هو متوفر في الوقت الراهن من فوائض مالية» وقد لا نجده بعد ثلاثين سنة. وتكمن الأسباب الرئيسية لهذه الاحتمالية في «تقدم السكان في العمر، وتقلص نسبة الشباب». أي أن تحسن صحة المواطنين، وارتفاع مأمول العمر «متوسط العمر» للمواطن السعودي، والعيش سنوات طويلة بعد بلوغ سن التقاعد سيؤدي إلى استمرار تسلمهم معاشاتهم التقاعدية كاملة أو شبه كاملة لفترات طويلة. حالياً يقدر متوسط عمر المواطن السعودي ب 35 .74 سنة، ومع التحسن المستمر في الرعاية الصحية والتقدم المطرد في صناعة الدواء، ومعالجة الأمراض المستعصية فإن هذا المتوسط سيشهد ارتفاعاً في السنوات المقبلة، خاصة أن السعوديين لم يخوضوا حروباً طويلة مع الجيران، وليس هناك ما يشير إلى فرضية حدوث نزاعات عسكرية مدمرة في محيطهم الإقليمي. كما أن موقع المملكة الجغرافي يقلل من فرصة تعرضها لكوارث طبيعية مدمرة وجميع ذلك يؤثر بشكل إيجابي في ارتفاع متوسط العمر. لقد كان متوسط عمر السعوديين 60 سنة، حين الإصدار الأول لنظام التأمينات الاجتماعي في سنة 1970 بينما يتوقع أن يرتفع العمر المأمول للسعوديين إلى ما فوق 80 سنة في 2025م، وهو ما سيفضي إلى ارتفاع نسبة المسنين إلى 6. 18% بدلاً من النسبة الحالية «7%»، وإلى انخفاض نسبة الشباب بين السكان إلى أقل من 70 %. هذه التغييرات العمرية وتزايد عدد المتقاعدين مبكراً؛ أي ممن أكملوا 25 سنة اشتراك في التأمينات ولم يبلغوا الستين من أعمارهم، الذين تدفع لهم التأمينات حالياً 50% مما تصرفه إلى مشتركيها، بينما هم لا يتجاوزون 12% من عدد المشتركين؛ سيفاقم من أعباء مؤسسة التأمينات الاجتماعية وسيشكل ضغطاً على إدارتها. فالمتقاعدون مبكراً عادة ما يكونون من أصحاب الرواتب العالية؛ الذين تقدموا للتقاعد المبكر إما طوعاً أو إكراهاً؛ وقد بدأوا في سحب معاشاتهم التقاعدية قبل بلوغهم الستين، وهو ما يربك حسابات مؤسسة التأمينات التي لم تأخذ في الحسبان أن عدد المتقاعدين مبكراً قد يصل إلى هذا العدد، وخاصة لمن هم دون الخامسة والخمسين. إن تنامي هذا الرقم لا يتطابق مع الاتجاه السائد عالمياً في الوقت الحاضر، فالميل للتقاعد المبكر شهد تناقصاً ملحوظاً في السنوات الخمس الأخيرة خاصة بين من يقومون بأعمال مكتبية، والسبب في ذلك هو سوء الأوضاع الاقتصادية وتآكل كثير من مدخراتهم. أما أصحاب الرواتب المنخفضة، الذين لم تقدم لهم حوافز مالية مغرية تدفعهم للقبول بالتقاعد المبكر، فهم لا يقٌدمون طوعاً على هذا الاختيار، لأن الفرق بين ما يتم تسلمه أثناء العمل وبين المعاش التقاعدي جداً كبير، وهذا يشمل جميع المشتركين دون استثناء، ولكنه يبرز بوضوح أكثر لدى العمال والفئات ذات الأجور المنخفضة. وهناك من بين هذه الفئات ممن لا يرغب في التقاعد حتى حين بلوغه الستين، لأن معاشه التقاعدي لن يكفيه لتغطية جميع التزاماته العائلية والمنزلية. فالنسبة المضافة إلى معاش التقاعد عن كل فرد من أفراد الأسرة التابعين، لا تكفي لتلبية جميع متطلباتهم واحتياجاتهم، وبالذات اليافعين من البنات والبنين. فما يحتاجه هؤلاء من مصروفات في وقتنا الراهن ليس كما كان عليه حين تم تعديل نظام التأمينات الحالي قبل أربعة عشر عاماً، كما أن نسبة التضخم لم تكن بهذا المستوى الحالي. ولهذا نجدهم متمسكين بالعمل حتى لو اقتضى منهم الأمر تعديل أعمارهم كي لا يجبروا على التقاعد،وهو ما ترحب به مؤسسة التأمينات، وحتى مصلحة التقاعد «حتى لو لم يبيحوا ذلك»، فكلما طالت مدة تسديد المشتركين لاشتراكاتهم الشهرية كلما ازدادت التدفقات المالية في خزائن هذه المؤسسات، وهو ما يعزز من إمكانياتها باعتبارها صناديق استثمارية تدير أموال المشتركين فيها. ولهذا نرى محافظ مؤسسة التأمينات الأستاذ سليمان القويز لا يشجع على التقاعد المبكر، ويطالب بإيجاد توازن في «صندوق المؤسسة»، كيلا يأتي يوم وتكون غير قادرة على دفع التزاماتها تجاه مشتركيها. إن القلق من المستقبل الذي يخالج المحافظ «وهو القادم من عالم البنوك، حيث احتساب المخاطر ووضع سيناريوهات التوقعات المستقبلية تعد من أبجديات العمل البنكي، ولا غنى عنها في وضع الاستراتيجيات الطويلة المدى» آت من معرفته بتفاصيل غير منشورة للوضع المالي للمؤسسة. فالمؤسسة لا تنشر ميزانياتها، ولا يعرف الجمهور حجم استثماراتها الداخلية التي بلغت 54 مليار ريال، أما العائد من هذه الاستثمارات واستثماراتها الخارجية، الذي يبين مدى جدواها فهو رقم غير منشور. إن معرفة هذه التفاصيل وتوضيح الصورة بشفافية يزيل القلق، أما غيابها فيثير لدى جميع المشتركين خاصة لمن لم يتجاوزوا الأربعين من أعمارهم، نفس القلق الذي يساور المحافظ، فالمستقبل غير آمن بهذه الصورة. صحيح أن الفقرة الأولى من المادة التاسعة من نظام التأمينات الاجتماعية تنص على ضمان الدولة للمؤسسة، إلا أنها لم تتعرض منذ تأسيسها لعجز مالي استوجب من الدولة تغطيته كيلا تخل بالتزاماتها، وهو ما يضاعف من قلق الجميع أمام هذه الحالة المستقبلية التي قد تحدث أو لا تحدث. ولكن تجنبها يمكن أن يتم بعدة خيارات كالتمديد في سن التقاعد الإلزامي، أو بتحميل أرباب العمل أعباء التقاعد المبكر بدلاً من مؤسسة التأمينات، أو برفع نسبة الاشتراكات الشهرية المستقطعة من أرباب العمل، أو برفع الاشتراكات الشهرية عن كل مشترك بمساهمة محددة تلتزم بها الدولة، مما سيؤدي إلى تحسن التدفقات المالية ويجنب الدولة أن تدفع مبالغ كبيرة في وقت واحد فيما لو حدث عجز مالي كبير يقتضي تدخلها. المهم أن لا نترك الأمور دون تخطيط مبكر، ودون وضع جميع الاحتمالات، فأي عجز أو حتى ارتباك أو تأخر في دفع معاشات التقاعد سيثير جملة من المشكلات الاجتماعية والسياسية التي يمكن تجنبها لو ابتدأنا في النظر إليها بمنظار مستقبلي يأخذ في الاعتبار جميع الاحتمالات، بما في ذلك الوضع المالي للحكومة والعائد على خزينتها من بيع البترول، الذي حتى الغد القريب سيشكل المصدر الأساسي للدخل الحكومي.