ترددتُ كثيراً من أن أدرج مقالاً يتضمن حالة شخصية، إذ إنه من المسلمات في قناعاتي الخاصة أن قلم الكاتب يجب أن يكون بملامح موضوعية وعامة وَإِنْ تنوع في الطرح وشطح يمنة ويُسرة، والميل للكتابة بصيغة الدردشة عن الذات والتحدث عن جانب الأنا لا تستهويني أبداً، غير أن تجربتي هذه أجبرتني على فتح النافذة لتوضيح ما أصبو لبيانه.. السرطان يحلُ ضيفاً دون دعوة: في غمرة البقاء، والركود المنسدل من أطراف حياة الفرد، ثمة ضوضاء وإن كانت شاحبة، تُغرق دواخلك بفوضى الحواس المتناقضة، تُطفئ مقبساً وتُضيء آخر، تُجبرك على النهوض من وجه المكان لتُعاود البقاء في ذات الموضع بجغرافية وكيفية أخرى مُغايرة، تخلع غشاءك الشفاف لترميه على قارعة المنضدة، وربما تزرعهُ على قارعة النور، الذي يشدك لعالم جديد لا تُدرك ملامح أنامله الرطبة، ولا تتحسس بشرتهُ الغضَّة التي تحبو بصورة غزيرة بين دفتي الانتظار، لم أقدم له دعوة حضور، لكنهُ اخترق حصوني، ببراعة وخفة لا يمكن وصفهما، حلَّ مُتربعاً بين الروح والجسد، لم أقابلهُ بتمرد ودموع وضجيج، سلمتُ أمري لخالقه وخالقي، ولم أرتئيه سوى زائر ينخرُ أعماق أعماقي، ليُقاسمني تفاصيل حياتي، فحلَّ ضيفاً دون دعوة مني، حلَّ واقعاً، يعزفُ خُطى الطريق. معهُ تتجدد الحياة: يرتعب بعضهم من مجرد الإقبال على إجراء فحوصات تتعلق بهذا المرض، فكيف إذا كان هو المرض بحد ذاته مستوطناً في أحد زوايا الجسم ! يخشون الموت وعذابات العلاج التي تُنهك قوى التفكير بمساحته الشاسعة وخيالاته اللامُتناهية، كما تُنهك الجسم بآلام ومُعاناة لا تنال إلا ممن يبتليه الله بهذا البلاء، يبدأون في خلق حياة مُظلمة، تُغلق عليهم كل منافذ الهواء، إلا ذاك الهواء المتشبع بسموم الكواكب المجاورة يحمل هطلاً يهدم ويُحطم ويُدمر كل ملامح البقاء والفرح، وتنكسر عصا الإرادة وتترنح ذاكرة الضوء، مُخطئون هؤلاء.. لتبنيهم ثقافة الرحيل، والولوج لعالم العتمة والانكسار، إنهم ينظرون بعين مُغبشة، وقلبٍ نائم، يرتدون عباءة الرحيل المورق بالوجوه الصفراء، «لستُ مثلهم أبداً»، هذا ما يجب أن أردده وأُترجمهُ في طقوس أيامي، هو مرض طارئ، وربما دائم، لن يبرحني، لكنه القدر المحتوم، والمكتوب، وهل نختار أقدارنا؟ وهل نعلم أزمان رحيلنا ومُعاناتنا وابتلاءاتنا؟ قال الله تعالى : «إِنَّ اللَّهَ عِنْدهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ «[ لقمان :34]. إذن الرحيل كُتِب علينا جميعاً، مرضى وأصحاء، كباراً وصغاراً، فلماذا التهيّب من «مرض السرطان» بحد ذاته! فالمستشفيات تعج بالمرضى بأنواع لها أول وليس لها آخر، وهناك من التشخيصات ما لا علاج له على خارطة الطب الحديث، ولا نهاية لمعاناة أصحابها، وهنا نستشفّ أننا في عرضة لأي من هذه الابتلاءات لا محالة، إلا من رحم ربي، فما ينبغي منِّي هو خلع عباءة الفزع والهلع من هذا الزائر، وإن كان اسمه يرعب ويدعو للرهبة والفزع، لكنه واقع لامحالة، فأنا مصابة بالسرطان، وفلان مصاب بالضغط، وذاك مصاب بالسكر، وتلك مصابة بالسمنة المرضية المفرطة، وهذه مصابة بالصدفية، وذاك مصاب بتضخم في القلب، وآخر بثقب في القلب، وذلك مصاب بمرض في المخ وغيرها من الأمراض التي يطول المسير في رحلة علاجها، أو يستعصي الخلاص منها، وهنا نصل لحقيقة: أن الله يمنحنا كل ما فيه خير لنا في الدنيا والآخرة، وإن غابت هذه الحقيقة ظاهرياً، إلا أنها الحقيقة التي يجب التسليم بها، لأُردد بقناعة وإيمان :« هو منحة منحني الله إياها، وخصني بها، وتسليمي وصبري إيماناً واحتساباً، له من الأجر والثواب العظيم». دون أن نختار مسار التجديد هو يختارنا: يرتدينا التجديد في ملامح الحب والقرب والعناية، تُورق شجرة الأحبة من حولنا، العائلة..الأصدقاء، حياة جديدة بوجوه تشع بالعطاء، والنبض المنسكب على أعماق الوهج، والبذل، نُقلِّب الأوراق المتراكمة، فيسقط بعض منها، وتتطاير مع رياح العبور، وتتصدر أخرى فوق روابي شمس البقاء، فلا يسعنا إلا النهوض وإكمال الحكايا، بوعي متيقظ في اختيار الرفقة، والأمكنة المشحونة بتلك الطاقة الإيجابية التي تنهض بنا للأفضل، وهجر كل ما يهوي بنا لعتمة وضيق وكدر، من هنا تتجدد فينا الرؤية المشعة بالأمل والوعي والإدراك لأمور أصبحت من أولويات طقوسنا الدافعة لنا للأفضل في مجالات حياتنا الجديدة، ثمة مُعادلة سحرية الأثر، تنهض بك لتتألق، وتُنتج، وتُشعرك بطاقة إيجابية قوية تُحيطك صباح مساء: – إنهم المخلصون من حولك، بحبهم، وإخلاصهم، وعطائهم المتوقد، كشمس نهار شتوي، يمنحوننا كثيراً، فتنهض الهمة ويتلاشى غبش الطريق. – يزداد معدل التيقظ لجانب الوعي في عاداتنا اليومية، الغذاء الصحي والرياضة والبعد عن كل العادات غير السليمة، التي ستعرقل خطواتنا في رحلة العلاج والتخلص من هذا المرض، وطوي المسافات لبلوغ أفضل النتائج المرضية. – رحلة العلاج رغم صعوبتها، وقسوتها، إلا أن هناك عاملاً مهماً جداً، يدفع بنا لخوض هذه المرحلة بروح مفعمة بالتفاؤل والإقبال الذاتي والنابع من قناعة ورغبة محتدمة، العامل المهم هو: طبيبك الخاص، وما يمتلك من مهارة عالية ومُتقدمة في احتواء المريض، والفن والتمكن الذي يملكه لتحطيم ذلك السور الشاهق القائم في مُخيلتنا -نحن المصابين – اتجاه هذا النوع من الأمراض، فهل كل طبيب متمكن من إزالة هذا السور الشاهق في علوه ؟ – حقيقة يجب أن نُدركها، أن الطب في تقدم وتطور مستمرين، والعلاج قبل عشرة أعوام ليس كالعلاج في هذا الوقت – رغم تشابه مراحله – وكذلك هناك فارق في الآثار التي تظهر على المريض أثناء « كورس العلاج»، فتختلف الآثار في معدل ظهورها من مريض لآخر، وهنا ينبغي ألا نستمع أو نطَّلع على تجارب الآخرين المعتمة، والعكس هو الصحيح، إذ إنَّ التجارب الناجحة والإيجابية هي التي نحتاجها في هذه المرحلة، فمن رحم الآلام تولد القوَّة والإنجاز وحياة بملامح أخرى. – الأخذ بالأسباب دون هوادة، مرحلة قد يستصعبها بعضهم، وهناك من يرفضها متوجهاً لعلاجات مختلفة، كالعلاج بالقرآن الكريم والرقى دون الأخذ بالأسباب، والأعشاب، وغيرها من الطرق العلاجية، وهذا أحد أسباب انتكاسة الحالة، ووصولها لمراحل متقدمة يصعب علاجها، إذ من أهم عوامل نجاح الخطة العلاجية هي خوضها كاملة وتحمل كل ما يُمْكِنُ أن يشعرنا بالألم والمعاناة، لكن لنأخذ بالأسباب ونُكمل الطريق لنصل لبر الأمان، بإذن الله وعنايته، وبمعيَّة القرآن الكريم، فهو الأنيس والشفاء من كل علَّة وسقم، وأخيراً، أرجو أن أكون قد وُفقت في بث رسالتي لمن يجد في سطورها ثمرة، وأسأل الله أن يحفظ الجميع، ويتفضل على كل مريض بالشفاء الدائم.