يحاول العنصريون طوال العصور تغليف نزعاتهم العنصرية البغيضة بأغلفة شتى لتسويغها. وكان اختلاق بعض النصوص الدينية، وبعض التأويلات لبعض النصوص الثابتة، أشهر تلك المسوغات. وتقوم هذه النزعات العنصرية كلها على الزعم بوجود فروق أساسية بين البشر تصنفهم إلى «أعراق» وتميِّز بعضهم بصفات إيجابية لا توجد عند الآخرين الأقل منزلة. وقد اختفت تلك النزعات العنصرية المغلفة بالدين، أو كادت في العصور الحديثة. لكن العنصريين في الغرب أخذوا في العصور الحديثة يستغلون العلوم الحديثة بديلا للنصوص الدينية وتأويلاتها لتأكيد هذه النزعات. وازدهر هذا المنحى ازدهارا كبيرا في القرن التاسع عشر خاصة حين استُغل علم الأناسة (الأنثروبولوجيا) لتأكيد «حقيقة» الفروق الأحيائية و«العرقية» بين البشر. فقد أخذ بعض الباحثين يقيسون جماجم البشر وبعض المظاهر العضوية الأخرى ليقسِّموا بني الإنسان إلى فصائل عرقية، ويضعوها على سُلَّم ارتقائي، يحتل أعلى درجاته الأوروبي الأبيض، ويؤكد تفاوتها في الذكاء وقابليتها، من ثم، للتحضر. ولم يكن ذلك هدف ذلك التصنيف العرقي للبشر علميا خالصا؛ إذ استخدم مسوغا للسيطرة الغربية على قارات بأكملها، وانتهى، في أسوأ صورة له، إلى النزعتين الفاشية والنازية في الثلث الأول من القرن العشرين اللتين جعلتا هدفا لهما القضاء على الأعراق الأدنى من البشر. لكن ازدهار علوم الأحياء منذ أواسط القرن العشرين أدى إلى تكاثر الأدلة العلمية التي تكشف بشكل جلي أن النتائج التي توصل إليها الباحثون السابقون عن وجود حقيقة للأعراق ليست صحيحة. ومن اللافت أنه على الرغم مما يكاد يكون إجماعا علميا على هذه النتيجة الآن إلا أن النزعات العنصرية المغلفة بالادعاءات «العلمية» تطل برؤوسها بين فترة وأخرى. ولعلنا نتذكر جميعا الضجة الكبرى التي أثارها كتاب: The Bell Curve: Intelligence and Class Structure in American Life, by Richard J. Herrnstein, Charles Murray1996 «منحنى الجرس: الذكاء والبنية الطبقية في الحياة الأمريكية»، الذي حاول «إثبات» التلازم بين الذكاء والأعراق. وكان مؤدى مزاعم مؤلفَي الكتاب أن هناك فروقا مهمة في الذكاء بين البيض والسود في الولاياتالمتحدة مما نتج عنه اختلاف مساراتهم الحياتية التي تبلغ أعلى مستوياتها في التفاوت الطبقي في المجتمع الأمريكي بين «العِرْقين» المزعومين. وتواجَه هذه النزعات دائما بجهود علمية مكثفة تكشف زيف تلك الأبحاث وقيامها إما على الخطأ في التأويل أو التلاعب بالأدلة، وهذا ما يؤدي إلى عزْلها واختفائها. ومن آخر الأمثلة على الظهور المتكرر لمثل هذه الأبحاث التي تسعى إلى تأكيد وجود «الأعراق» البشرية المختلفة كتابٌ ألفه أحد الصحفيين في جريدة نيويورك تايمز، نيوكلاس ويد Nicholas Wade، الذي اشتهر بكتبه المتعددة التي تسعى إلى تبسيط العلوم وتقديمها لغير المتخصصين. والكتاب هو: A Troublesome Inheritance: Genes, Race and Human History «وراثة مُشْكِلَة: المورثاتُ، والعِرق، والتاريخ البشري»، (2014م). وقوبل الكتاب، كما هو المتوقع، منذ يوم صدوره، بموجة من المراجعات العلمية الصارمة التي كتبها متخصصون في أبحاث الوراثة والعلوم الأحيائية عامة ومتخصصون في علم الأناسة والعلوم الأخرى القريبة من تلك العلوم. وليس غريبا أنه لم يتصد للدفاع عن الكتاب إلا بعض الباحثين المعروفين باهتمامهم بنزعات مماثلة لنزعة المؤلف، وهم الذين أفلت نجومهم نتيجة للنقد العلمي الحاسم لأطروحاتهم العنصرية المغلفة بالعلم. ومن أشهر هؤلاء المدافعين عن الكتاب أحد مؤلِّفي كتاب «منحنى الجرس» نفسه، في مراجعة نشرتها صحيفة وول ستريت جورنال (المحافظة)! يقوم كتاب ويد، كما كتب أحد مراجعيه، على الزعمين التاليين: 1 أن البشر ينقسمون إلى «أعراق قارِّيَّة» (نسبة إلى «قارَّة») يمكن اكتشافها وراثيا (ويورد المؤلف أعدادا مختلفة لتلك «الأعراق» في كتابه، فهي إما ثلاثة أو خمسة أو سبعة، بحسب الصفحة التي تقرأها من الكتاب (كما يقول ذلك المراجع)! 2 أنه يمكن ملاحظة فروق مهمة دالَّة في أنواع السلوك الاجتماعي التي تقوم على أسباب وراثية بين هذه «الأعراق» نتيجة للتطور البشري طوال الخمسين ألف سنة الماضية (أو 15 ألف سنة، كما يقول المؤلف في إحدى صفحات كتابه). ويقول هذا المراجع المتخصص في الأناسة: إن ويد مخطئ في زعميه كليهما. ثم يورد بعض الحقائق الجوهرية عن التنوع الوراثي البشري كما يلي: 1 أن المورثات لا تفعل شيئا بنفسها، فهناك عوامل أخرى تؤطر عمل الأجسام كأنظمة النمو وتمثُّل الطعام، وغيرها. 2 أن مصطلحات ويد غير محددة واستخدامه لها غير مطَّرد. 3 والسؤال الحقيقي هو: ما شكل التنوع الوراثي البشري حقيقة؟ فهل هناك خمسة (أو ثلاثة أو سبعة) أعراق «قارية»؟ والصحيح، كما يقول المراجع، إنه لا توجد «أعراق» بالمعنى الدقيق. وذلك للأسباب التالية: 1 أن البشر جميعا يشتركون في 100% من مورثاتهم وفي 99.9% من التنوعات فيها. لذلك لا تزيد التنوعات التي نهتم بها على 0. 1% من المكوِّن الوراثي. 2 الغالبية العظمى في الحمض النوويDNA التي تتنوع لا توجد في المورثات نفسها ولم تكن نتيجة لعمل مبدأ الانتقاء الطبيعي بالطريقة التي يوحي بها ويد. 3 أن أغلب حالات التنوع تعود إلى عوامل عشوائية. ومن ذلك أنه كلما تباعدت الجماعات مكانا كان وجود الاختلافات بينها أكثر احتمالا. 4 أن معظم التنوع في النوع الإنساني كله موجود في جماعات تسكن إفريقيا تحديدا. ومن هنا لا تمثل التنوعات كلها الموجودة في الجماعات خارج إفريقيا إلا فرعا صغيرا من ذلك التنوع. ويقول مراجع آخر إن الأدلة تتزايد على أن مزاعم ويد لا تقوم على أسس علمية قوية. ذلك أن «جمع الناس بحسب ألوان جلودهم لا يؤدي إلى النتائج نفسها التي تُستخلص من جمعهم بحسب أشكال جماجمهم، أو فصائل دمائهم. يضاف إلى ذلك أنه تبين واضحا للباحثين، حين بدأوا يدرسون التنوعات البشرية باستخدام مفاهيم علم الوراثة وتقنياته، أن التنوعات الوراثية البشرية لا تقسم البشر إلى جماعات قليلة متمايزية. ولا توجد أية حدود حاسمة، لا بحسب الخصائص المادية ولا بأنماط الاختلافات الوراثية، تحدد أين «تنتهي» هذه المجموعة البشرية وأين «تبدأ» المجموعة التالية». ويقول كذلك إن هذا الملحوظات قادت الأغلبية من علماء الأناسة الطبيعية وعلماء الأحياء البشرية وعلماء الوراثة البشرية خصوصا في العقود القريبة الماضية إلى استخلاص أن المجموعات العرقية التي نلاحظها ليست إلا فصائل اجتماعية تقوم على أسس ثقافية وتاريخية محددة، حتى بالنظر إلى الخصائص العضوية حين نصنِّف البشر». ومن مزاعم ويد الأخرى التي ناقشها مراجعو كتابه وسخَّفوها زعمه أن الظروف الاقتصادية السيئة التي يعيشها الإفريقيون ربما تعود إلى بعض التنوعات في بعض طبائعهم كمفاهيمهم الخاصة بالوقت وقيم العمل والميل إلى العنف. وكذلك زعمه أن الاختلافات الوراثية هي التي تفسِّر فشل الولاياتالمتحدة في تأسيس الديمقراطية في العراق وأفغانستان. وسبب ذلك، كما يكتب: أنه لو كانت هذه المؤسسات ثقافية خالصة لكان يجب أن يكون نقلها إلى البلدين سهلا! أما بزوغ الغرب وتميزه العلمي والصناعي فلم يكن حدثا تاريخيا وحسب بل كان نتيجة لعملية التطور البشري التي أدت إلا اصطفاء هذا «العرق»! ومن الغريب أن ينشر ويد هذه الترهات في وقت استطاع فيه الباحثون الوصول إلى نتيجة لم يعد يشك فيها أحد، وهي أن الاختلاط الوراثي بين البشر هو القاعدة، وهو ما يعني أنه ليس هناك صفاء عرقي في أية مجموعة بشرية.