قامت الدنيا ولم تقعد نتيجة لتوصية مجلس الشورى باعتماد ماسمّي باللياقة البدنية في مدارس البنات، فاستنفرت الجهود واستنهضت الهمم وشمر عن السواعد لمنع المحاولات التغريبية والمؤامرات الليبرالية لإفساد الفتيات وهتك سترهن وتعرضهن لخطر الرياضة، وما أدراك ماخطر الرياضة وما يحضر في معيتها من شرور مستترة ومفاسد مخبوءة!. وكأن شيوخنا الأفاضل لايعنيهم شيء من قضايا الأمة والوطن إلا المرأة ولباسها ورياضتها وقيادتها وعملها وخروجها ودخولها!..وهنا لابد من اجتراح فتاوى ذرائعية تقطع على التغريبيين محاولاتهم التآمرية، حتى أصبحت فتاوانا العجائبية حدثاً تندرياً عالمياً يستدعي رسم الكاريكاتيرات الساخرة وصناعة النكات والقفشات في عالم صار أبعد مكان فيه على مرمى ضغطة زر أو نقرة فأرة!.. وهل نستطيع لومهم وجدلياتنا وأحداثنا الجسام تبدو خارج التغطية وأطر التاريخ والجغرافيا، وكأنها تصدر من أبعاد زمن سحيق غائر في الماضوية؟! في المقابل أيضاً شحذت سيوف الأقلام ودبجت المقالات تلو المقالات رداً على المحاولات الاحتسابية والفتاوى الغرائبية واستحضرت مناقب الرياضة وفوائدها، ونسبة سمنة السعوديات، والدفوع الدينية لحدود المباح والمتاح، في مشهد صحفي شبه جماعي تتكرر فيه تقريباً نفس المقولات وإن بأساليب مختلفة!.. حتى ليظن الناظر أنه لم يتبق لنا مشكلة عصية على الحل أو قضية إلا قضية رياضة البنات -أو بالأحرى لياقتهن- في مشهد هزلي عبثي أصابنا بالتخمة على كثر تكراره وتواتره في مشهدنا كلما جد أمر وخاصة فيما يتعلق بأمور المرأة. وكأنما هناك تعمد وتقصد لاختزال قضايانا وإشكالاتنا في المرأة، فمنها تبدأ وتولد الإشكاليات ثم تمر بها وصولاً إليها أيضاً، وهنا يتورط الخطاب الصحفي أيضاً في إشغال المشهد وإعادة إنتاج العبث!.. ولعلّي لا أبالغ حين أقول إنه قد كتبت عشرات المقالات في بحر الأسبوع الماضي تتحدث عن ذات الموضوع، – وحقيقة- سئمنا ومللنا من استنساخ وإعادة إنتاج ذات السجالات والجدليات العقيمة، فما يحدث ليس إلا هدراً للفكر واستنزافاً للطاقة في أمر وحده السياسي من يحسمه!. وأثبت لنا مرة بعد مرة قدرته على احتواء كافة أنواع الممانعات بجرة قرار ملزم، تصمت بعده كافة الأصوات المعارضة!،.. ولعلّ آخرها قضية تغيير إجازة الأسبوع إلى يومي الجمعة والسبت والتي حدث عليها لغط كبير وسجالات عقيمة ماتت برمتها بمجرد صدور القرار الرسمي!. فلماذا نستنزف كل هذا الوقت والجهد في الرد والرد المضاد، أم أن هذا هو حدود المتاح والمسموح به في نقاشاتنا؟! تتحرك المجتمعات عادة من خلال تزاحم الأفكار وتدافعها وصراعها من أجل البقاء، وحركة الصراع ضرورية ولازمة في عملية الدفع بالأفكار غير المنتجة والعقيمة إلى المقابر، وتبني أفكار جديدة تساهم بدفع المجتمع إلى الأمام ليواكب حتمية التطور وصيرورة الزمن وحيثيات الواقع. فيما لايبدو أننا قادرون على الخروج من متاهات جدلياتنا التي تستهلك كل قوانا وجهودنا لنعود إلى المربع الأول كل مرة، وعلى أحسن تقدير قد نراوح مكاننا لنعيد إنتاج مشهد الكوميديا السوداء بحذافيره. وفي تقديري أننا لنخرج من هذه الدوامة الجدلية العبثية علينا أن نقرر هل نحن دولة مدنية في القرن الواحد والعشرين تتبنى التحديثات التي تدفع بالإنسان قدماً وبالمجتمع في طريق التنمية، أم نصر على التنقيب في دفاتر الماضي ونمارس لي عنق كل إشكالايتنا -التي لا علاقة لها بالدين-، لنلبسها ثوباً دينياً ثم نبحث لها عن دفوع محللة من جبهة القبول أو فتاوى محرمة من جبهة الرفض لنعود مرة بعد أخرى لذات المربع الجدلي!. فهل نحتاج فتوى على سبيل المثال لنركب الطائرة أو لنتعالج في المستشفيات أو لنتعلم في الجامعات، فلماذا نحتاجها في أمور بدهية لا تستدعي كل هذا الجدل والنقاش؟! فالواضح لا يوضح ولا يحتاج إلى إعادة تفسير وتأويل، وإلا غرقنا في محظور نفي البراءة التي هي الأصل في الأمور. ولماذا تأخذ قضايا المرأة دوماً أبعاداً دينية حتى في الأمور التي لا علاقة لها بالدين، والتي ران عليها إرث العادة وشوائب التقليد وغشاوته؟! ناهيك على أنه إذا ما تعلق الأمر بحق مستلب، فإن الحقوق لا يستفتى عليها ولا يفترض أن تخضع للجدل مطلقاً. إلباس التحديثات المتعلقة بالمرأة لباساً دينياً يردنا إلى الدفوع والدفوع المقابلة، وسيتوكأ دوماً حزب الرفض على الفهم الديني لعصور سالفة تخرج من عباءة أنساق ثقافية قديمة ليدعموا ويعززوا حجتهم، بينما سيتمترس حزب التجديد بفهم ديني تجديدي وتأويل مختلف ليقوي دفوعه! فيما يتحتم أن يبقى الأمر في حدود صفته وصورته الواقعية، بما هو مستجد فرضته الحياة الحديثة وحركة الزمن المتطورة بعيداً عن إشكالات الفتاوى والدفوع الدينية المناهضة والأخرى المنافحة. بل إن الإصرار على ربط كل تحديث متعلق بالمرأة بتأكيد ( وفق الشريعة الإسلامية) سيضمّن في الخطاب المسكوت عنه إمكانية واحتمالية حضور ماهو ضد الشريعة الإسلامية، وهنا تستنفر كل الحواس الدفاعية في اللاوعي لمد الجسور الذرائعية منعاً لما قد يحدث مما هو مخالف للشريعة. فيما تقع على الجهات الرسمية مسؤولية تنقية خطاب المرأة من مفردات الدونية والتبيئة الثقافية لحقوقها المهدرة، مما يحتاج إلى جهد كبير وإرادة سياسية حازمة تشرع الأبواب للاشتغال على الخطاب الثقافي والاجتماعي والتعليمي والإعلامي ، وقبل كل شيء تفكيك دونية المرأة في الإجراءات والأنظمة الرسمية والتعامل مع المرأة من منطلق كمال الأهلية بعيداً عن التمييز .