ليس هذا نزل ساحراتٍ، لكنه بيت نساء يغزلن قمصان رجال ذهبوا في سفرٍ لا يعودون منه. بيت يقع على مفترق طرقات المحرق، ويشرف على الجسر، ويحرس البحر؛ لئلا تفر منه السفن دون علمهن. ثلاث عوانس لا يتركن نافذتهن في الطابق الأعلى من البيت، لم يرهن أحد عن قرب، ولم يستطع أحد وصفهن، لكنهن يقبعن هناك طوال الوقت. ثمة من يتذكر أن أباً كان معهن لسنوات في انتظار الرجال المبحرين، وحين تأخر الرجال سافر الأب لكي يأتي بالرجال المنتَظَرين، التائهين في الخليج. عوانس، لعبن بمخيلة رجال المدينة لفرط جمالهن المتخيل، دون أن يتأكد أحدٌ من مزاعم البعض بأنهم نظروا خلسة لجمال (إلى جمال) النساء المنتظرات. يروى عن العوانس الجميلات، أن أباهن سبق أن التقى في أحد أسفاره بثلاثة رجال وارتبط معهم باتفاق على تزويجهم بناته الثلاث المنتظرات في بيتهن المطل على خليج البحرين. مرت السنوات والبنات يكبرن في انتظارهن الرجال البحريين، دون أن يظهر أحد منهم. لكن اليأس لم ينل من أمل النساء. وعندما بدأ العمر يتقدم بهن أطلق الناس عليهن اسم «عوانس البيت». وأصبح كل من يمر بذلك الطريق، ويلمح ستارة النافذة تتحرك في الغرفة العالية في ذلك البيت، سيتخيل النسوة الثلاث وهن يتوقعن في كل لحظة وصول الرجال الغائبين. يتخيلهن ناظرات إلى الأفق، لعل شراع سفينة يظهر هناك. الوقت يمر وهنَّ يشغلن أنفسهن بغزل القمصان الشتوية، ويعدن غزلها في الصيف. وكن كلما ظهر في أفق البحر مركب، وقفن على أطراف أقدامهن ويرسلن الأبصار، حتى يرسو المركب على الشاطئ، وينزل ركابه ويتأكدن أن أحداً ممن ينتظرنه ليس بين الواصلين. يتنفسن الصعداء مبتسمات في اطمئنان واثق بأن الرجال لابد أن يكونوا في المركب التالي. يرمين بأجسادهن المتعبة على مقاعد الخيزران في الشرفة، يتبادلن النظرات المتحسرة، ثم يفجرن ضحكاً صاخباً يسمعه المارة ناحية باحة «عين بن مطر» في الجانب الجنوبي من بيتهن. حتى أن رجلاً عجوزاً سمع ضحكهن ذات مساء، فأقسم أن في البيت نساء فاجرات يتوجب حرق البيت بهنّ. ويحكى أنه لفرط معرفة تلك النساء بكل مركب قادم في تلك الشطآن، نشأت بينهن وبين بعض الصيادين صداقات غامضة. كان الصيادون الذين لم يجدوا رجلاً في ذلك البيت، توافقوا، عبر الوقت، على أن يضعوا أمام بيت العوانس شيئاً من صيدهم كلما عادوا من البحر بالصيد. وظلت النساء مخلصات في انتظار الرجال، ولم يحل ذلك دون النظر بحسرة إلى من يمرّ من رجال المدينة في شارع العوانس، وربما لعب خيالهن باحتمال أن يكون بعض هؤلاء الرجال حصة متاحة، ربما راقت لهن ذات مغامرة. الأمر الذي جعل رجال المدينة غير بعيدين عن هذا الاحتمال من ناحيتهم أيضاً. وشاعت روايات مختلفة عن نزول العوانس في منتصف الليل لاصطياد رجل بين وقت وآخر، يأخذنه إلى غرفتهن الشاهقة، ولا يطلقنه إلا في فجر اليوم التالي. وروى شخص، زعم أنه كان ضحيتهن ذات ليلة، مسهباً في سرد التفاصيل المذهلة عن تلك الليلة، مظهراً النساء الثلاث في صورة شبق لا يرحم الضحية، مما يغذي مخيلة رجال المدينة. ومما يروى أيضاً، أن النساء كن يدلين حبالاً من نوافذهن يجلبن الشخص الذي يصطدنه من الشارع، وقيل من البحر أحياناً. وقيل إنهن ينتخبن شخصاً لتلقينه دروساً أسطورية من فنون الحب، يعترف بعدها كم أن هؤلاء العوانس يمتلكن من خبرة تفوق نساء الجزيرة جميعها. وتصور الروايات كيف أن هؤلاء النساء كن يمارسن نزواتهن بحُرِّيَّة تحسدهن عليها نساء الجزيرة، فيذهبن إلى التحريض على إشعال النار في بيت العوانس بمن فيه لئلا يفسدن حال رجالهن. لكن أحداً من الرجال لم يكن يصغي لذلك. بل إن معظمهم كان ينتظر دوره ليصبح الضحية التالية. قيل، ولم يكن ذلك يمسّ عنوسة النساء الثلاث ولا يخدش عذريتهن. فيما كنَّ لا يغفلن عن الانتظار المتأجج كل يوم، فلا يفتر حماسهن، مؤمنات بأن والدهن يعود غداً مع الأزواج الثلاثة. أذكر ذلك كأنه الآن. كنتُ كلما مررت بذلك البيت، رفعت رأسي تحت شرفته الغريبة، وصعّدت عينيّ خفيةً، أسترق النظر وراء الستائر السميكة، بأمل مكبوت ورغبة صبيانية، في حبل رفيع يصطادني من دون كل مخلوقات المدينة ليشبع خيالي الجامح. وبعد أن أعبر ذلك الطريق، أقف أرقب عن كثب غيمة شاحبة تخرج من البحر، عابرة الشارع متصاعدة تظلل المدينة جميعها، دون أن أدرك أين الخيال من الواقع في كل تلك الروايات.