صدقوني إن كثيراً من المستبدين والطغاة والظالمين لا يزعجهم أن تلعن في حضرتهم الظالمين، أو تدعوَ الله أن يعجِّل بهلاكهم، ولو سمع أحدهم ذلك منك فلربما استحسن قولك وابتسم لك وقال لك بهدوء (اللهم آمين)، بل قد يكافؤك على ذلك، لأنه قد استقر في نفسه أنه من أعدل الناس ومن أكثرهم ورعا وتقوى وأنه «خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح»، فهو يعتقد أنك إنما تقصد بلعنتك تلك أعداءه أو أشخاصاً آخرين، أما هو فإن الجميع شاهدٌ على عدله وتقواه وورعه وحسن عبادته، فلا تعتقد أن ظالماً في الدنيا يولد وهو ظالم، وإنما ظروف المجتمع من حوله والبيئة والناس هم الذين يصيرونه ظالماً، وعلى ذلك فالقول إن المجتمع هو الذي يصنع الطغاة هو قول لا يخلو من الحقيقة إن لم يكن كله حقيقة، فالطاغية إذا أراد أن يقتل فسيجد من يوافقه على القتل ويقول له إن القتل عليه واجب في مثل هذه الحالات، وإذا أراد أن يسجن فسيجد من يبرر له السجن ويقول له هذا حكم الله، وإذا أراد أن يسرق فسيجد من يقول له بأن ماله حلال خالص لا شبهة فيه، فكل إنسان تحت ظروف معينة من الممكن أن يصبح طاغية، وأي نظام إذا وُجد من يزين له سوء عمله فهو يسير إلى الهاوية. فقبل أيام رأينا المندوب السوري في مجلس الأمن بشار الجعفري وهو يستهل كلمته بالبيت الشهير لنزار قباني: «دمشق يا كنز أحلامي ومروحتي... أشكو العروبة أم أشكو لك العربا؟!» وهو بذلك يستشهد من أشعار نزار قباني على اعتبار أنه عادل يذوب هياما في حب الوطن والعروبة، وأن غيره ممن رفضوا أن يكونوا شهود زور على ما يفعله من بلطجة وتنكيل وقتل هم الظلمة، متناسياً أن فكر نزار قد نبت في أرضه وأن استبداد النظام وظلمه حرَّضه ليكون واحداً من أعظم شعراء الثورة والحرية، فهو القائل (ولكنهم قرروا أن نموت، ليبقى النظامْ، وأعمام هذا النظامْ، وأخوال هذا النظامْ، ونبقى تماثيلُ مصنوعةٌ من عجين!)، وقد ذكر نزار قباني أنه حين بدأ كتابةَ الشعر في منتصف الأربعينيات كان يعلم أن أصابعه سوف تحترق، وثيابه سوف تحترق، وسمعته سوف تحترق، وأن الشعر ليس نزهة في ضوء القمر، وأن رحلته في هذا العالم ستكون انتحارية، فهو لا يدري هل يعود إلى بيته أم لا. لذلك فإنه قد اختار العيش في بيروت على العيش في سورية منذ العام 1966، ولما اغتيلت زوجته في انفجار السفارة العراقية في بيروت عام 1980 شعر بأن الموت يطارده في كل مكان حتى أنه وصف الحال بقوله: (بعد بلقيس أقمت باباً من الحديد في بيتي يسبق بيتي بمتر ونصف المتر أغلقه عليَّ وعلى أولادي من الساعة السابعة مساء، وأنام بعيون نصف مفتوحة أطل على أسرَّة أولادي كل هنيهة)، وحين شعر بحاجته إلى الأمن قرر الرحيل إلى المنفى (لندن) وبقي هناك إلى أن توفي عام 1998. إن من الإنصاف أن تكون أشعار نزار قباني وسيرته من الشواهد على ديكتاتورية النظام السوري وقسوته، لا أن تكون وسيلة يستدر بها عطف المجتمع الدولي ورحمته، وأي ادعاء غير ذلك ليس إلا تمثيلية هزلية تشبه في وجه من الوجوه ما ذكره الكاتب أنيس منصور -رحمه الله- من أن مذيعاً أمريكياً اسمه جورداش أجرى حواراً مع الرئيس الراحل أنور السادات وطلب منه بشكل مفاجئ القيام بعمل تمثيلية يتقمص فيها المذيع شخصية السادات ويقوم السادات بدور مناحم بيجين،على أن يقوم أنيس منصور بتأدية دور ياسر عرفات، مشترطين أن يكون التمثيل مرتجلاً! فتحدث السادات بلسان بيجين وقام بمهاجمة السادات والعرب، ثم طلب من المذيع أن يدع المجال له ليرد هو بنفسه على نفسه وعلى كل ما قاله بلسان بيجين، فضحك السادات ساخراً ثم بدأ بمهاجمة بيجين بعنف مؤكداً له: أن مثل هذا التفكير العتيق لن يحقق السلام بين إسرائيل والعرب!، وبعد ذلك رد على الكلمات المفترض أن يكون عرفات هو الذي قالها، حيث قال كلاماً معناه أن عرفات موهوب في إضاعة الفرص، وبعد أن انتهت التمثيلية قال جورداش لأنيس منصور: مصيبة كبرى أن يحكمنا هؤلاء الناس الذين هم أقدر على التمثيل من الممثلين أنفسهم!