الموت لم ينتظر جمعته المعتادة، فبعد عام من الثورة المصرية، اقتحمت الجماهير ملعبا لكرة القدم في بورسعيد، واشتبكت في قتال مباشر على الهواء، حيث سقط أكثر من سبعين قتيلا ومئات الجرحى. كرة القدم لعبة ممزوجة بالفن والجمال، يلتقي على عشقها الملايين، يتحدثون لغتها ويتراقصون على أنغامها، لعبة سحرية، تكاد لمسة قدم أن تطلق أصوات البشر في جوقة واحدة، فكيف تحول هذا الجمال الى فعل قبيح وسلوك همجي؟! لم تكن أحداث مباراة المصري والأهلي، وليدة اللحظة، بل هي تراكم لاحتقانات عدة، فجرها شعار مهين رفعته لوحة مثل الدرجة الأخيرة للغليان الجماهيري. سيتم ربط مسببات عديدة لما جرى، وفي أجواء مأساوية كهذه ترفرف فكرة المؤامرة على مختلف الأعلام. ولو التفتنا الى كرة القدم السعودية وتساءلنا هل مدرجاتنا محصنة ضد مثل هذه الفاجعة؟ قبل الإجابة علينا أن نبحث عميقا عن مسببات الاحتقان المتراكمة التي توصل الجماهير الى لحظة الغليان، وتنتظر شرارة لتشعل المدرجات مثل الهشيم. إن فلسفة لعبة كرة القدم عندما تنحرف عن قيمها الجمالية والفنية، إلى مسارات العصبية والعنصرية، تتحول تدريجيا إلى حالة صانعة للقبح بدلا من الجمال، وتصير الكرة قيد نقطتين من الكره، وأبعد ما تكون عن الحب، ومنه تتنامى مشاعر العداء للآخر : فريقا كان أو مشجعا، أو مدينة، أو بلدا... كل من ينطوي تحت راية الفريق المنافس هو آخر لا بد من هزيمته بشتى الوسائل. يشارك في صنع هذه الكراهية كل الأطراف الداخلة في صناعة كرة القدم، بدءا من اتحاد الكرة وإدارات الأندية ومرورا بالإعلام وانتهاء باللاعب والمشجع. لو نظرنا سريعا إلى الإعلام الرياضي سنرى مظاهر كثيرة لتفشي الكراهية والاستعداء، وبمجرد استعراض خطاب الإعلام الرياضي سنتفاجأ بلغة ملأى بالعنصرية وتجييش الكراهية، في حين تقل اللغة الباحثة في جمال وفنون اللعبة. أتذكر منذ عقدين عندما كان المثقف يعف عن الكتابة في الرياضة، وهو أمر أقل ما يقال عنه تصرف طفولي، ولكننا لا نرى فرقا كبيرا بعد أن زالت تلك النظرة الدونية، فلا زالت الكتابات الرياضية تحمل نفس الأعراض المرضية المستأصلة فيها، وعنما أسأل عن أسباب هذه الكتابات التي تعزف على مشاعر البغضاء فقط، تصفعني الإجابة: الجمهور لا يتابع إلا الكتابة المثيرة، وكأن الإثارة لا تأتي إلا مغموسة بالعنف. المكان الذي يسوده القبح يرى الجمال شاذا ومنبوذا، ولن يتساهل في محاربته والقضاء عليه، مثل عدو، فالمناخ الذي تسيطر عليه البشاعة لن يغفر للجمال أن يفضحه ولهذا أبدع الشاعر محمد الماغوط قولا يمكن التصرف في ظاهره: هذا الجمال لن يمر دون عقاب. إن تربية الكراهية وشحن الجماهير بمشاعر عنصرية ضد الآخر، واستخدام لغة مغموسة بالعداء وكأنها منزوعة من قاموس الحرب، كل هذا يراكم مشاعر الحقد والضغينة عند الاختلاف، مشاعر حين تتراكم لا تحتاج لاشتعالها فجأة ودفعة واحدة إلا شرارة واحدة. أنظر الى المدرجات من زاوية مختلفة، فأراها مكتظة بالذكور فقط، ماذا لو أصبح للمرأة حضور كامل في المدرجات، هل يخفف وجودهن من حدة العنف؟ تساؤل يحتاج إلى مقال قادم.