في العام 1959م نشر بدر شاكر السياب الشاعر العراقي المتحول والمرتد عن الشيوعية سلسلة مقالات في 30 حلقة في صحيفة الحرية العراقية، قبل أن يجمعها وليد خالد أحمد حسن ويصدرها في كتاب يحمل العنوان نفسه الذي اختاره السياب لمقالاته: كنت شيوعيا (منشورات دار الجمل 2007م) وهي تشبه الاعترافات الهجومية التي تختزن بكم هائل من الضغينة ضد التجربة الحزبية والشيوعية في العراق والأممية الشيوعية والفكر الماركسي على حد سواء، بحيث تتصاعد الضغينة لتبلغ ذروتها في صياغة جديدة لأممية نقيضة ترفع شعارا مستمدا من أصله المتداعي: «يا أعداء الشيوعية اتحدوا» بدل العمال والبروليتاريا والصعاليك. لم يكن السياب خطابيا بمعارضته هذه، ولم تكن الصيغة المخترعة مجرد محاكاة على نحو بارودي «ساخر» لنص أصيل كتبه لينين ذات يوم على شكل دعوة ثورية.. لم يكن السياب متهكما أبدا، بل كان جديا في محاكاته حتى وإن لم يشعر، وما ذلك إلا لأن الارتداد، في منطق الانفعال أو المزاجية القريبة إلى روح شاعر، لا يحتمل أنصاف المواقف، حتى لكأن العداوة هي الوجه الآخر للصداقة، وما من خيط رفيع ولا مسافة فاصلة بين الموقف والنقيض، وليس هنالك ما هو أكثر هرطقة أو«تحريفية» من موقف هجين، وما هو أشد ميوعة من أنصاف المواقف، السياب هنا وفي لراديكالية محتجبة، لماركسية أرثوذكسية تنطق من خلاله، تؤثث خطابه حتى بعد تحوله وارتداده. «يا أعداء الشيوعية اتحدوا» عنوان يجسد رغبة الكاتب كما يتوزع في المقالات مثل لازمة تجسد ملامح النص، فلتفنيد الخطاب الماركسي يجد نفسه بحاجة إلى توظيف كل الخطابات النقيضة، الديني والقومي والليبرالي.. الخ، ولا غرابة أن نجد حساء دسما يجمع مرافعة اليمين الديني والوطنية الشيفونية والقومية العربية. الشيوعي لا وطن له، حين تمطر السماء في موسكو يحمل مظلته، والشيوعي عدو الإيمان والموروث والعادات والتقاليد ورجال الدين، أما القوميات فهي حصيلة لتشكل الدولة البرجوازية في أوروبا، وبالتالي ستمثل عائقا أمام البروليتاريا والأممية: الشيوعية والقومية نقيضان لا يلتقيان. وهكذا يستمد السياب سهامه النقدية من مصادر تكاد تكون متناقضة، ثم يرميها بضربة واحدة وفي مزيج مرتبك وانفعالي لا نعثر فيه على ما يشي بنقد موضوعي إلا فيما ندر. ثمة فجوة كبيرة بين الشعر والفكر يردمها السياب ليقيم شكلانية خطابية ممتلئة بفجوات التهويل والمبالغة، يبدو فكر السياب الذي يقدمه في اعترافاته أكثر وفاء لمقولات بلاغية خانتها نصوصه الشعرية، من خلالها تقدم الماركسية بقالب هجائي وتقزيم أو تضخيم كاريكاتوري، السياب يصدمنا بجرعة عالية من الانفعال والحدة وكذلك التبسيط، سنجد في الاعترافات ماركسية مبسطة، مدانة لا بمقولات الفكر وإنما بتجاوزات فردية هنا وهناك، فلأن «فلاناً» من الناس اخترق هذا «التابو» أو ذاك، فإن كل ما يمت إلى ماركس بصلة سقيم وفوضوي لا يعبأ بأخلاق ولا بقيم. كان على الذات الشاعرة الانفعالية داخل السياب أن تتوارى وتحتجب قليلا لكي يتسنى لذاته الفكرية أن تمارس مهامها، أن تضمر العاطفة لصالح العقل والنقد الموضوعي، ولكن مع الأسف هزم النقد وربح الانفعال، كان السياب يصرخ أكثر منه يفكر، كان سجاليا بامتياز، لم يوفر أحدا من سهامه وسخطه، شاعرا كان أو مفكرا، فعبد الوهاب البياتي شاعر رديء يكتب نظما لا شعرا، وناظم حكمت الشاعر التركي داعية سياسي لا يبلغ كعب شكسبير حتى ولو استعان بنيوردا وأراغون وسيمونوف، وبالطبع عبدالوهاب البياتي. قد يكون لهذه الأحكام التي يوزعها السياب هنا وهناك مبرراتها النقدية والأدبية لو لم يتورط السياق بذاتوية مفرطة وعاطفة منفلتة من كل قيد، عاطفة تتعزز أكثر بذخيرة من الذهنية التآمرية، لينتج في المحصلة فقرا نقديا وسجالية فاقعة، كل شيء مؤامرة، ماركس نفسه مؤامرة، ماركس يهودي لم يكتب «رأس المال» إلا نكاية بالحضارة الغربية «المسيحية»، لينين هو الآخر يهودي أقلوي انقلب على الثورة البرجوازية ليحل محلها ديكتاتورية البروليتاريا، أما التجارب الحزبية العربية فهي الأخرى وليدة دخلاء يهود.. الخ. إن أي تفسير لأزمة اليسار وتجاوزات الدول الاشتراكية «التي لا ينكرها أحد» ليس ممكنا في خطاب السياب دون استدعاء المؤامرة، فيما يشبه النقد المتخشب لخصوم القومية، فدعاة القومية «كساطع الحصري وميشيل عفلق وقسطنطين زرق» هم أيضا أقلويون مسيحيون كان هدفهم «الخبيث» تفتيت الهويات العابرة للقوميات، لكن المدهش أن السياب يلجأ لهذه الحجة فيما هو يصطف إلى جانب ضحاياها «دعاة القومية» وهم خصوم الأمس حلفاء اليوم. السياب لم يكن هو نفسه إلا ضحية، ضحية تبسيط واستعجال أفشل التجربة فصارت مجرد نسخة باهتة للأصل، إذ لم يسبقها أو يترافق معها اشتغال فكري جاد، إن العاطفة التي تمثل هنا قاعدة الخطاب ومعماره، هي وحدها وسيلة التأسيس الحزبي وقاعدة الاستقطاب، لقد شيدت التجربة الحزبية بالعاطفة وحدها، لم يكن ثمة تمهيد أو توطئة فكرية، هناك فقط تنشئة عبر الكراسات، حتى الأعمال المركزية لم تترجم إلا بعد سنوات طويلة من تأسيس أول حزب شيوعي، لم تترجم أعمال ماركس كرأس المال أو غيره، لم تترجم أيضا أعمال هيغل -لا يمكن معرفة الماركسية بصفتها عهدا جديدا للهيغلية أوهيغلية مقلوبة إلا بالعبور على الهيغلية أولا كما لا يستطيع أن يكسر القاعدة إلا من عرفها- فلا غرابة إذاً لو تحولت التجربة إلى ظاهرة صوتية أو ظاهرة انفعالية لا تلقي بذيولها على المنتمي الوثوقي وحسب، بل أيضا على ناقدها.