بعد الحرب العالمية الأولى، جاء انتقال المشرق العربي من السلطنة العثمانية العابرة للقوميات إلى الدول الأمم قراراً غربياً محضاً. وعلى رغم افتقار المنطقة إلى بدائل تطرحها في مواجهة «الحدود التي رسمها الاستعمار»، ما خلا «الدولة العربية» الهزيلة في دمشق، فإن المصدر الغربي لعملية الانتقال أعفى القوى الثقافية والسياسية في المشرق من التفكير في المهمة تلك، ومن معاناتها، الشيء الذي يصح في معارضيها «القوميين» كما في مؤيديها «الانعزاليين». هكذا، لم يُبذل جهد ملحوظ للتفكير في صيغة «اللامركزية» التي كانت العنوان الأول للاعتراض على السلطنة بعد ظهور «التنظيمات»، أو لتطويرها وتكييفها مع الظروف الجديدة. تستدعي التجربة تلك تجربة أخرى مشابهة عاشتها الاشتراكية الديموقراطية النمسوية قبيل انهيار الإمبراطورية الهابسبورغية وبعيدها. فهناك أيضاً طُرحت مهمة الانتقال إلى الدول الأمم، الأمر الذي انجرت عنه معاناة سياسية وفكرية وتنظيمية بالغة الثراء. لكنْ، لماذا الاشتراكية الديموقراطية النمسوية، أو «الماركسية النمسوية» وفق التسمية التي عُرفت بها طروحاتها الفكرية؟ لقد كان الاشتراكيون الديموقراطيون، خارج البيت الهابسبورغي الحاكم، العنصر السياسي الأممي الوحيد في الإمبراطورية النمسوية الهنغارية. وهذا ما جعلهم يبزون سواهم عنايةً بالموضوع نظراً إلى توزع رفاقهم على أرجاء الإمبراطورية الفسيحة، وتالياً بسبب الخوف من أن يقود التفسخ الإمبراطوري إلى تحطيم وحدة «النضال البروليتاري» بتفتيته «القاعدة المادية للإنتاج». وكان ما يضاعف الإلحاح على تفكير الحدث وتنظيره فقر الزاد الذي قدمته الماركسية في ما خص مسائل القوميات. فكارل ماركس نفسه قسم أوروبا القرن التاسع عشر إلى أمم «تاريخية» وسواها. والأخيرة، وهي في معظمها شعوب سلافية صغرى، إنما حُكم عليها بالاندثار أو بأن تطويها يد النسيان. وقد عامل ورثة ماركس الأوروبيون الوطنية والقومية بصفتها خدعة بورجوازية، فكان على جماعة «الماركسية النمسوية» أن تهتم بالمسألة، لا سيما منها المنظران والسياسيان أوتو باور وكارل رنَر. والحال أن الاهتمام هذا كان أحد أبرز العناصر التي أكسبت «الماركسية النمسوية» خصوصيتها، هي التي تأسست كتيار فكري في 1904 يضم مثقفين وساسة متنوعي الاتجاهات ضمن اليسار، كالكانطي الجديد ماكس أدلر والاقتصادي رودولف هلفردينغ، صاحب الدراسة الشهيرة عن «الإمبريالية». وفي 1921 توج هؤلاء خصوصيتهم بتشكيلهم أممية للأحزاب الاشتراكية عرفت بالأممية الثانية والنصف، على أمل أن تستطيع توحيد الأمميتين الثانية (الكاوتسكية) والثالثة (اللينينية)، وهو ما كُتب له الفشل طبعاً. والجدير بالذكر أن «الماركسية النمسوية» هي ما استلهمته لاحقاً «الشيوعية الأوروبية» ثم «اليسار الجديد» لما بعد الستينات، في محاولتهما التصالح مع الديموقراطية وتشكيل أرض وسطى بين الشيوعية والاشتراكية الديموقراطية، كما كانت من مصادر استلهام الأحزاب الاشتراكية الديموقراطية في اسكندينافيا، وكذلك بعض الإصلاحات الكبرى التي تلت الحرب العالمية الثانية في بريطانيا وسواها، خصوصاً الضمان الصحي. على أن الاهتمام بالمسألة القومية ومحاولة مصالحتها مع الاشتراكية في سياق إمبراطوري متصدع ساق أصحابه إلى تلك المعاناة المديدة نسبياً التي سبقت الاستقرار عند الدولة الأمة النمسوية والتحول ركناً أساسياً من أركان بنائها. فالحزب الاشتراكي الديموقراطي افتقر أصلاً إلى كل تحليل مشترك للنزاعات القومية داخل دولة متعددة القومية، ولم يستطع أن يقدم سوى خطوط عامة توحيدية يجمع بينها تبشير مجرد بالأممية. فهو مثلاً لم يُقم أي تمييز بين «أمم مضطهِدة» و «أمم مضطهَدة»، ما بات، منذ 1917، المفتاح النظري في السياسة البلشفية حيال القوميات. مع هذا فإن تناقضات التركيبة الإمبراطورية كانت تتسلل إلى صفوفهم جاعلة التمسك ب «الأممية» أقرب إلى وعظ واهي الصلة بالواقع الفعلي. فالاشتراكيون الديموقراطيون في النمسا الألمانية لم يُخفوا تأثرهم بفكرة «الخطر السلافي» على الثقافة الألمانية، فيما الاشتراكيون التشيك وغير الألمان اعتبروا أنهم مغبونون بالتفوق الألماني في الإمبراطورية الهبسبورغية. وحين صار المد القومي يُحرج صمت الاشتراكيين، اعتُمد تعريف جديد للطابع الأممي المفترض للطبقة العاملة: ففي 1897 أطلع قائد الحزب فيكتور أدلر المؤتمر الحزبي في فيينا على أن في وسع الاشتراكي الأممي أن يكون قومياً وطنياً. ذاك أن معارضة حركة العمال الأممية كل شكل من الاضطهاد القومي، لا يلغي اعترافها بمعطى الفردية القومية. وقد بات مألوفاً منذ ذلك التاريخ قصْر المهمات النمسوية الجامعة للاشتراكيين الديموقراطيين على نضالات ومطالب اقتصادية، على أن يُترك لكل حزب فرعي أن يمثل المطالب الثقافية لأمته. وجاءت النقلة الثانية للحزب مع مؤتمر برْنو في 1899، إذ طالب بتحويل النمسا دولة ديموقراطية متعددة القومية تكاد تتطابق حدودها مع حدودها اللغوية، كما تنقسم إلى مناطق حكم ذاتي وطنية وإدارية، على أن يترافق هذا مع إصلاح الإمبراطورية وتحويلها دولة ديموقراطية فيديرالية. وكانت الأهمية السياسية الحاسمة لهذا البرنامج أن الاشتراكيين الديموقراطيين باتوا يتقدمون من مسألة القوميات بلا تمويه أو مواربة. فتمسكُ النمسويين منهم بالنمسا الكبرى بدا شيئاً مرغوباً بسبب اقتناعهم بأن الحفاظ على هذا الإقليم الاقتصادي الكبير هو في مصلحة الطبقة العاملة. وكان ذلك موصولاً بتصور عن الأمة بصفتها معطى ثقافياً لغوياً، ما مهد الطريق بعد سنوات قليلة لتصور عنها كذاتية وطنية – ثقافية. وهذا، في واقع الأمر، ما حمل أبرز منظريهم، أوتو باور، على التفكير في ما عُرف ب «المبدأ الشخصي» كطريقة لتجميع الأعضاء المتفرقين جغرافياً للأمة نفسها. و«المبدأ الشخصي» (وهو تلخيص لتعبير «الحكم الذاتي الوطني الشخصي») هو ما طوره باور في كتاب له في 1907 بعنوان «مسألة القوميات والاشتراكية الديموقراطية»، بحيث يصار بموجبه إلى «تنظيم الأمم لا في أجسام ترابية، بل في روابط بسيطة للأشخاص»، ما يوجب فصل الأمة عن الأرض وجعلها رابطة غير أرضية أو ترابية. ولئن ركز باور على الحماية القانونية للأقليات الثقافية، وهي الأفكار التي تأثر بها «البوند» الماركسي اليهودي في روسيا، فإن لينين هاجمها بشراسة، كما كرس لها ستالين فصلاً كاملاً من كتابه، أو كراسه، «الماركسية والمسألة القومية» (1913). فقد عارض الأخير تعريف باور للأمة بصفته يقوم على الفصل بين السيكولوجيا والأرض والشروط الاقتصادية، أما لينين فهجا سياسة الماركسيين النمسويين في القوميات، إذ «الحكم الذاتي الثقافي القومي» ينطوي على إفساد العمال عبر شعار الثقافة القومية وبالدعاية البالغة الأذى، بل المناهضة للديموقراطية، في فصل المدارس تبعاً للقوميات. وباختصار فهذا البرنامج «يتناقض من دون شك مع أممية البروليتاريا ولا يتساوق إلا مع مثالات البورجوازية الصغرى القومية». لقد باتت الأمة تُعقَل، لدى الاشتراكيين النمسويين، بصفتها جماعة لغوية وثقافية مستقلة عن أي محدد ترابي أو اقتصادي. ومن خلال هذه الذاتية الوطنية تتولى كل القوميات في الدولة إدارة شؤونها الثقافية في معزل عن الجغرافيا، بحيث يُحافَظ على هذا النحو على وحدة الدولة العابرة للقوميات. هكذا، فالتصور الماركسي النمسوي لم يعترف ل «الأمة المضطهَدة» بالحق في الانفصال السياسي، قاصراً حق تقرير المصير على الجوانب الثقافية واللغوية. ذاك أن المعادلة الجديدة هي أن الأممية تتيح لعمال كل واحدة من الأمم أن يكونوا قوميين ثقافيين، ما داموا يتيحون الحقوق نفسها لعمال الأمم الأخرى. ووفق توصيات برنامج برْنو، عبرت هذه الفكرة عن نفسها بعنوان «الرعاية والتنمية للخصوصية القومية لدى جميع شعوب النمسا». والواقع أن الأمور كانت تجري مجرى مغايراً. فمنذ 1905 صار عمل الحزب العابر للقوميات معاقاً بصراع الألمان والتشيك، وفي العام نفسه وقف، للمرة الأولى، الاشتراكيون الديموقراطيون الألمان والتشيك في مواجهة بعضهم بعضاً في انتخابات محلية في مورافيا، وفي البرلمان صوت نوابهم ضد بعضهم بعضاً. ثم منذ 1911 لم تعد هناك حتى شكلياً كتلة اشتراكية ديموقراطية عابرة للقوميات، وفي 1912 اعترف مؤتمر حزب النمسويين الألمان بأنه لم يعد ممكناً الحديث عن وجود حزب عابر للأمم، الشيء الذي عده البعض لاحقاً استباقاً لانهيار الأممية الثانية تحت ضغط انفجار الحرب في 1914. ففي سياق الحرب تلك سارت الأحزاب القومية المختلفة (خصوصاً البولندي والتشيخي) في طريق السعي إلى الاستقلال السياسي، فيما استمرت القيادة النمسوية الألمانية تدافع عن «دولة عابرة للقوميات» بصفتها شكلا متفوقاً على الدولة القومية. وإذ كان يتبدى تراجع الحظوظ الفعلية لاحتمال كهذا، اقترح السياسي الاشتراكي الديموقراطي كارل رنر اتحاداً بين الأجزاء الألمانية من النمسا وألمانيا، ذاهباً إلى حد استخدام تعبير «إنخلوس» (اتحاد) الذي بات، في الحقبة النازية، سيئ السمعة والمضمون. ولئن انهارت الإمبراطورية نتيجة الحرب العالمية الأولى، فإن معاهدة فرساي، في 1918، خيبت الأمل إذ حالت دون إمكانية الاتحاد مع ألمانيا المهزومة في تلك الحرب. بيد أن الاشتراكيين الديموقراطيين مضوا، مثلهم مثل باقي القوى السياسية الفاعلة في النمسا، يشددون على الاتحاد مع باقي أوروبا الناطقة بالألمانية. وفقط في 1933، مع وصول النازيين إلى السلطة في برلين، أزاح الحزب الاشتراكي الديموقراطي، علماً أنه ظل، حتى 1938، يعتبر فكرة الاستقلال النمسوي فكرة «رجعية». بيد أن القيادي الاشتراكي الديموقراطي كارل رنر مثل، في تلك الغضون، ما يمكن اعتباره وعياً تسووياً كُتب له الانتصار لاحقاً. فهو من دون أن يتراجع عن تأييده للوحدة مع ألمانيا، وافق، منذ 1918، على إقامة دولة أمة نمسوية تكون مثل دول باقي القوميات، وقد صار أول رئيس حكومة («مستشار دولة») لتلك الجمهورية الصغيرة الناطقة بالألمانية التي رفضت أن تكون وريثة للإمبراطورية الهبسبورغية وأرادت أن تعرف ب «جمهورية النمسا الألمانية». وهذه التسمية أيضاً منعها الحلفاء المنتصرون كما سحقوا قرار الجمعية الوطنية التأسيسية في فيينا بأن تكون «النمسا الألمانية» جزءاً من جمهورية فايمار الألمانية. وبموقفه المرن هذا، سمي رنر «أب الجمهورية»، ليلعب، بعد الحرب العالمية الثانية، دوراً في تكوين الجمهورية الثانية والحالية وليصبح أول رئيس لجمهورية النمسا الحيادية بين الحلف الأطلسي ودولة الرفاق السابقين ومعسكرها. * كاتب ومعلق لبناني